هوية بغداد
الثابت الوحيد في الأزمة العراقية الراهنة، وقبلها الأزمة السورية المحتدمة منذ أكثر من ثلاث سنوات، هو تجذر الطائفية السياسية وهيمنتها على المجال العام في بلدان المشرق العربي، محملة بثقل يتجاوز الأبعاد الدينية إلى حمولات ثقافية واجتماعية تذهب بعيدا في العمق الاجتماعي والسياسي. والأخطر من ذلك، هو كيف شهدت السنوات الأخيرة عمليات تشكل ديمغرافي داخل هذه البلدان على أساس طائفي. ما يعني فشل الدولة الوطنية، بعد أكثر من ستة عقود، في القيام بوظيفتها الأساسية المتمثلة في الدمج السياسي.
ما يحدث اليوم في العراق هو نتاج عملية ممنهجة، آخر حلقاتها بدأت بعد الاحتلال الأميركي، وتتجسد في تعبيرات الحرب الأهلية غير المعلنة. إذ جرت عمليات تهجير ممنهجة على أساس طائفي، شملت إعادة رسم خطوط التماس الديمغرافي طائفيا. فمئات التفجيرات التي كانت تستهدف عشرات الأحياء المختلطة طائفيا في مدن عراقية أساسية، لم تكن أكثر من جزء من عملية إعادة رسم الخرائط السكانية على أساس طائفي، والتي تصاعدت بشكل عملي واضح بعد عملية تفجير مرقد الأمامين العسكريين في العام 2006. هذه العمليات التي تعد من أكبر عمليات التصفية المدنية التي يشهدها بلد منذ الحرب العالمية الثانية، هي التي أسسست للحظة التاريخية الراهنة التي أفرغت الدولة الوطنية العراقية من مضمونها السياسي والاجتماعي، وهي التي هيأت لفكرة التقسيم على أساس طائفي.
وعلينا ملاحظة أنه حتى خطة فرض القانون التي أعلنتها حكومة نوري المالكي في العام 2007، ذهبت بهذا الاتجاه. ولطالما تابعنا اتهامات من داخل الأجهزة الأمنية أو من أطراف رسمية، بشأن المسؤولية عن التفجيرات التي عادة ما كانت تتبعها عمليات تهجير وتفريغ وإحلال سكاني على أساس طائفي، فيما بقيت "هوية بغداد" هي العقدة، كما يصفها الباحث العراقي يحيى الكبيسي في دراسة مهمة حول "صراع السياسة والديمغرافيا في العراق". إذ تشكل الحزام المحيط بالمدينة تاريخيا من العرب السنة، بينما شهدت المناطق المختلطة في وسط بغداد وشرقها، عمليات تهجير وإعادة تشكيل سكاني على أساس طائفي. وعلى الرغم من أن هذه العمليات لم تحسم بشكل واضح هوية المدينة، إلا أن الاحداث الأخيرة تؤكد أن الصراع على مستقبل الهوية الطائفية للمدينة سيكون، للأسف، هو الأكثر بشاعة إذا ما استمر هذا المسار. وهنا نتذكر تهديدات تنظيم "داعش" بالوصول إلى بغداد، والاستعراضات المقابلة للمليشيات الشيعية المدججة بالسلاح.
لقد واجهت بغداد، منذ فترة مبكرة من الاحتلال الأميركي، عمليات تهجير وتمزيق وتغيير مخططا لها، بهدف تغيير هوية المدينة باعتبارها رمز الدولة الوطنية العراقية، والرمز الذي يجمع كل العراقيين. ومن هنا برزت فكرة سور بغداد الذي يهدف إلى فصل العاصمة عن بقية المحافظات. هذا المخطط أكملته الحكومات الطائفية، بقصد أو من دون قصد.
عمليات الفرز الطائفي على أساس جغرافي تنسحب أيضا على الأحداث الجارية في سورية، على الرغم من أن المشهد في هذا البلد يختلف عما في العراق. إذ لا شك في أن الكثير من المناطق، وحتى الأحياء في بعض المدن، قد تمت إعادة تشكيلها، خلال السنوات الأخيرة، على أساس طائفي؛ بمعنى تهيئة الأساس الملائم للتقسيم. فيما يصاحب ما يجري على الأرض خطابات سياسية لم تتوقف عن التحسر على مستقبل سورية، وأن مصيرها التقسيم، والتذكير بأنها كانت قبل العام 1935 تتكون من خمس حكومات محلية.