السؤال المحرج
وسط ازدحام أحداث الشرق الأوسط، الجديدة والتقليدية، باتت ظاهرة التطبيع مع العنف وأنماط انهيار الكيانات السياسية تأخذ منحى خطيرا؛ فكأن لا شيء يحدث اليوم في اليمن، هذا البلد الذي يتفكك وتضرب به الحرب الأهلية من كل الاتجاهات، بعد أن أصبحت الجماعة الدينية المعروفة بالحوثيين تسيطر على منطقة "عمران"، وفي طريقها للسيطرة على إقليم أزال ومنفذه البحري، أي تشكيل كيانها الانفصالي، بينما يتجه الجنوب اليمني إلى الانفصال عمليا. هذا فيما تشهد ليبيا عملية تفكيك على الأرض، ازدادت قوتها بعد أن تراجعت مغامرة القائد العسكري الأخير.
السؤال المحرج والمخجل هو: ما الفرق بين القتل والدمار في غزة وضواحيها، وبين ما تشهده مدن العراق على أيدي النظام والقوى المتطرفة على حد سواء؛ وما الفرق بين ما تصبه آلة الحرب الإسرائيلية من دمار على رؤوس الناس في الشجاعية ودير البلح، وبين ما تشهده حلب وريف دمشق، وكذا القتل في بنغازي وطرابلس؟ هذا السؤال ليس أخلاقياً فحسب، بل هو سياسي وتاريخي أيضا، ولا تُنتظر إجابته من الأنظمة السياسية، بل من المجتمعات.
لا نريد تصديق أن المجتمعات العربية كلما مُنحت حرية أكثر، ازدادت محافظة وردة سياسية وثقافية؛ وكلما أتيح أمامها المزيد من فرص التعددية، تراجع التسامح السياسي والثقافي مع الداخل والخارج، وتحولت إلى عصابات تتقاتل. فالتحول الديمقراطي في العالم العربي ما يزال يواجه تحديات عميقة، والطريق الوعرة لم تسلك بعد.
الدولة في العالم العربي، بعد عصر الثورات و"الربيع العربي"، تولد من جديد، وتنتقل فيها حركة الصراع من الصيغة التقليدية؛ من الخارج إلى الداخل إلى علاقة الداخل بالداخل. الدولة الحائرة تُطبخ في هذا الوقت على نار غير هادئة، وبانتظارها مصير مجهول.
كان المسار المأمول للعالم العربي ينحو باتجاه الإحلال البطيء للشرعية العقلانية القانونية، مكان الشرعيات التقليدية. ثمة كرة من اللهب وليس من الثلج تتدحرج عبر الحدود العربية، تحتوي على أنماط من صراعات ونزاعات داخلية تعبر عن اختلالات متفاقمة في علاقات الداخل بالداخل، وتترك خلفها حرائق سياسية واقتصادية واجتماعية لا تكاد تخمد في مكان حتى تشتعل في مكان آخر.
الأزمة الصراعية تزداد عمقا تحت عناوين الديمقراطية هذه المرة. وكلما قيل إن الأوضاع تميل إلى التهدئة، تنفجر أحداث من نمط متكرر في مكان آخر، وكأن الحدود العربية العصية على الاختراق أمام البشر والأفكار وحتى السلع، أصبحت شفافة أمام ظاهرة الصراع على مستقبل الدولة الراهنة. فما يحدث اليوم، وما هو منتظر أكبر من نزاعات أهلية عابرة وأكثر من تمرد محلي، لا تشبه ما تخبرنا به كتب التاريخ عن معاناة التحولات الديمقراطية في العالم؛ فهل تشبه أوضاع العراق بعد عقد كامل من الاحتلال والتحول الديمقراطي، أوضاع ألمانيا الغربية في نهاية الخمسينيات؟
جذور الأزمة تكمن في صنائع الأنظمة السياسية وفشلها التنموي والسياسي والاستراتيجي. ويجب أن تكون هذه الأزمة أداة للإصلاح والتغيير، أكثر من كونها أداة تستثمرها الأنظمة لاستمرارها وتبرير سطوتها الأمنية.
نجد جذور هذه الأزمة المعقدة في فكرة فجوة عدم الاستقرار التي تحدث عنها العديد من الباحثين منذ عقد الستينيات من القرن الماضي، وارتبطت بنظرية التحديث. وهي فجوة تظهر في الفترة الفاصلة بين حالة الاستقرار التي يفرضها الاستبداد ومرحلة التحول نحو الديمقراطية. وفي المسار الطبيعي، قد تتجه الأحداث نحو هذه النتيجة التي تعني مخاض استقرار القيم والانتماءات، وهو للأسف مسار لا يتجه إليه العالم العربي في هذا الوقت، رغم حجم الفوضى والإرباك، نظراً لحجم تشابك القوى والمصالح المحلية والإقليمية والدولية الفاعلة فوق الساحات العربية. ورغم تناقضها الظاهر مع بعض الأنظمة السياسية، إلا أنها لحظة تجسد التقاء المصالح بالتوافق على استمرار الأمر الواقع، وإيهام المجتمعات بأن الخير كله باستمرار هذا الواقع.