كراهية النقد.. تعمية الحقيقة!
لا يمكن عملياً حل المشكلات إذا لم يتم أولاً تشخيصها والاعتراف بوجودها. وكثيراً ما يبدأ اكتشاف المشكلة والتنبيه إليها من عين أخرى ترى ما لا يراه المرء في نفسه، وتنظر من زاوية أقل عاطفية وأكثر موضوعية. لكن ثقافتنا، أفراداً ومجتمعاً، تكره كشف العيوب ولا تحب مواجهة الحقيقة، مثل الذي يعرف في نفسه علة ويتهرب من مراجعة الطبيب، في هروب لا ينفع صاحبه.
فكرتُ في ذلك بينما أقرأ مقالاً مطولاً نسبياً، منشوراً في مجلة أجنبية عن الأردن. وقد بنى الكاتب تصوراته على أساس ميداني، حيث زار البلد وتجول فيه وقابل مواطنيه وضيوفه. وبشكل أساسي، يدرس الموضوع قضية اللاجئين وتفاعلاتها وتداعياتها وعلاقاتها بأدوار الأردن الإقليمية. ولكن، ومع أن الكاتب يعرض واقعاً أعرفه ويعرفه أغلب الأردنيين، فإنني لم أختر ترجمته، ببساطة لأنني أعرف أن هامش التسامح مع الأفكار والرؤى عندنا لا يسمح بمثل هذه الصراحة -بغض النظر عما إذا كانت محقة أو غير ذلك. وليست هذه هي المرة الأولى التي أصادف فيها كتابات أجنبية قيّمة عن البلد، لكنني أقدّر أنها لن تمر، منها على سبيل المثال لا الحصر، تحليل قيّم للأزمة الاقتصادية في الأردن وخلفياتها السياسية والاجتماعية، وعلاقتها بالربيع الأردني. وفي هكذا أحوال، قد يتحدث من يصادف مثل هذه الموضوعات عنها مع المقربين، أو يترجمها -في مثل حالتي- ويقدمها لمن يعتقد أنه قد يهتم بها على سبيل الاطلاع، والصمت. ويخالط المرء شعور في هذه الأحوال بأن في الأمر خيانة للجمهور الأوسع الذي ينبغي أن يعرف، لكن السبل إليه مقطوعة بحلقات متعاقبة من الرقابة.
بالمناسبة، عرفتُ من باحث أجنبي زائر أنه أراد أن يتفاعل مع البلد خلال وجوده فيه، فكتب شيئاً ونشره في صحيفة أميركية غير واسعة الانتشار. وحسب ما فهمت من العنوان والمقاربة اللذين وصفهما، فإنه لم يعرض صورة سلبية عن الأردن بقدر ما عرض قراءة أرادها موضوعية لبعض المواقف. لكن مقالته لم تفلت من عين الرقيب، وجاءه من حذره من مغبة الكتابة عن البلد مرة أخرى. وفكرت: سوف يعود هذا الزائر إلى بلده، وسوف يكتب ما يريد ببساطة، وسيكون هذا القمع لحريته في التعبير شيئاً يمكن أن يحكيه ويكتبه عن الأردن. ثم، ما المشكلة الكبيرة في أن يقرأ المقالة أناس بعيدون هناك وراء المحيطات؟ وما حجم المكسب والخسارة في إرعاب أجنبي بهذه الطريقة لهكذا سبب؟ وكيف يمكن أصلاً منع كل الآخرين من كتابة ما يريدون، كيفما يريدون، عنا وعن غيرنا، ومعاملتهم كالمحليين؟ وفوق كل شيء، ما هي أهمية الإعلام والكتابة إذا كان كانت غايتهما الأولى هي التصفيق، ثم قول ما يراد أن يقال فقط، نقطة؟! وقدرت، من باب استجلاب التفاؤل وعدم الرغبة في مواجهة الحقيقة أيضاً، أن السلوك المذكور تجاه الباحث الأجنبي كان اجتهاداً فردياً غير حصيف، وأنه لن يعجب أيّ مسؤول يفهم شيئاً في الدبلوماسية.
بشكل عام، سيعني التمسك بهذه الاتجاهات أنه لن تكون هناك أي فائدة من وجود مراكز للدراسات على غرار تلك التي تساعد صانعي القرار في تشخيص المشكلات واقتراح الحلول. سوف يعني إبقاء المعلقين والمحللين في حالة يرثى لها وهم يجهدون في انتقاء موضوعات بعيدة عن الجوهريات، وهائمة في الهوامش. وسيعني بقاء الوعي العام في حالة خدر وتساؤل. لكنه سيعني فوق كل شيء خداع الذات وترحيل المشكلات للأبناء. ومع أن الإعلام يحاول أن يتحايل قدر الإمكان باستخدام عبارة "هذه المقالة لا تعبر عن رأي الصحيفة/ المطبوعة" إلا أن ذلك لا يكفي لإتاحة عرض آراء الغير بشفافية.
التعامي عن المشكلة وادعاء أنها غير موجودة بمجرد الصمت عنها، لا يجعلها غير موجودة. وهناك الكثير من القضايا الحاسمة التي يعرفها كل المواطنين في الأردن، والتي تحتاج إلى نقاش علني غير متشنج، والبحث لها عن حلول تخفف الاحتقانات وتخدم البلد. لكن كراهية النقد وتعمية الحقيقة ستبقي الكثير من الأفكار المهمة حبيسة منطقة الإمكان، بينما كان إطلاع الآخرين عليها سيغني المشهد، ويثير النقاش، وربما ينجب الحلول!