فلسطين وإزدواجية المعايير في الأمم المتحدة
بعد فشل عصبة الأمم في مهمتها الرئيسية في العام 1920 بالمحافظة على السلام العالمي، وعقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية، والتسبب بمقتل وجرح وإعاقة وفقدان وتهجير مئات الملايين من المدنيين.. تداعى زعماء الدول الكبرى في العالم للقاءات متكررة تبحث في عدم تكرار تجارب الظلم والحروب والتدمير، وضرورة إحلال السلام بين الدول والشعوب؛ فكان أن أُنشِئت هيئة الأمم المتحدة يوم 24/11/1945، بإلتزام 51 بلداً بـ"حفظ السلام عن طريق التعاون الدولي والأمن الإجتماعي"، ويصل أعداد الدول الأعضاء حالياً 193 دولة، وتعتمد الهيئة ستة لغات لإجراءاتها وللتخاطب مع العالم، هي العربية والإنكليزية والفرنسية والصينية والروسية والإسبانية.
مع إنطلاف أعمال الهيئة في العام 1945، فإن أولى المهام التي أوكلت للأعضاء صياغة معاهدة تحفظ كرامة الإنسان بغض النظر عن اللون والجنس والعمر والمعتقد، فكان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10/12/1948، ومعه من المفترض أن تبدأ مرحلة جديدة من نظام عالمي جديد يعتمد حقوق الإنسان مرجعاً للعلاقات بين الدول والشعوب، لا سيما وأن المادة السابعة من الإعلان العالمي تنص على أن "الكل متساوون أمام القانون ويتمتعون بحماية متساوية من قبل القانون بدون أي تمييز، وكذلك محميون بدون تمييز من مخالفات هذا الإعلان وكذلك من التعديات والتمييز".
رضخت الدول لتأثير اللوبي الصهيوني، ووقَعَت هيئة الأمم المتحدة بالخطأ القانوني الإستراتيجي الأول المتعلق بالقضية الفلسطينية، بأن نسخت وعد بلفور للعام 1917 مع وثائق وقرارات عصبة الأمم وقامت بضمه كجزء من شرعية وقرارات الهيئة حديثة الولادة، مع العلم بأن لا شرعية قانونية لوعد بلفور، فقد تم الوعد وفلسطين لا تزال محتلة من قبل بريطانيا، ووفقاً للقانون الدولي، لا يحق لدولة إحتلال أن تهدي من لا تملك لمن لا يستحق.
خلال ثلاثة سنوات من التحضير والإعداد لإطلاق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتوافق على مضامين وصياغة ثلاثين مادة، كانت الدول الكبرى تراقب وتضطلع على التقارير الدورية التي كانت تصلها تباعاً عما يجري للشعب الفلسطيني في فلسطين، ومن المذابح التي كانت ترتكبها العصابات الصهيونية، وسياسة التطهير العرقي والتهجير والطرد والإبعاد للشعب الفلسطيني وتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، بالتعاون والتنسيق مع قادة الإنتداب البريطاني التي كانت تغض النظر عن جميع ممارسات العصابات الصهيونية وبالمقابل تمارس سياسة الخنق والتضييق على الفلسطينيين؛ فقد شهدت الدول المنكبة على صياغة الإعلان العالمي قيام بريطانيا بتسليم فلسطين الى العصابات الصهيونية وإعلان قيام دولة الإحتلال في 15/5/1948، واستناداً للقانون الدولي كانت مهمة بريطانيا كدولة منتَدِبة أن تهيِّئ الشعب الفلسطيني لحق تقرير المصير، لكن هذا لم يحدث وهذا كان خطئاً إستراتيجياً ثانياً، بأن وقفت الأمم المتحدة موقف المتفرج ولم تحرك ساكناً، ولم تتخذ أي إجراءات بتوقيف تسليم فلسطين للعصابات الصهيونية، أو اتخاذ أي إجراءات قانونية بحق دولة الإنتداب.
تسبب قيام دولة الكيان الصهيوني بمساعدة الإنتداب البريطاني على قيام أكبر وأطول قضية لاجئين في العالم؛ فقد وصل عدد اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 الى 935 ألف لاجئ، أما عددهم الآن وبعد أكثر من 66 سنة على النكبة أصبح حوالي ثمانية ملايين لاجئ، فالحكومات الصهيونية المتعاقبة تؤكد دائماً على عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين وتعتبر مجرد الحديث فيه من المحرمات. خلال تسعينيات القرن الماضي وخلال عشرة سنوات، لعبت الأمم المتحدة أدواراً فاعلة بالضغط على الدول الأطراف وتم إعادة أكثر من عشرة ملايين لاجئ إلى بيوتهم الأصلية، في موزمبيق وغواتيمالا وتيمور الشرقية وروندا وكوسوفا وغيرها من الدول، إلا إنه وعلى الرغم من صدور القرار 194 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11/12/1948 مؤكداً على القرارات الدولية الخاصة بحق العودة للاجئين الفلسطينيين والتعويض وإستعادة الممتلكات، وعلى الرغم من مرور أكثر من 66 سنة على صدور القرار، فلا يزال في أدراج الأمم المتحدة تعلوه الغبار، ويمثل وصمة عار في جبين المجتمع الدولي لتقاعسه وتخلفه عن تنفيذ واحداً من قراراته الهامة والمفصلية في تحقيق استقرار المنطقة العربية.
سياسة الكيل بمكيالين وإزدواجية المعايير للأمم المتحدة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لا تقف عند حدود قضية اللاجئين، فلا يزال الإحتلال الصهيوني لفلسطين التاريخية قائماً، وبناء المستوطنات في الضفة مستمراً، ولم تتوقف محاولات تهويد القدس وتغيير أسماء ومعالم المدن والقرى العربية في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وإنتهاكات يومية لحقوق الأسرى، وإعتداءات لا تعد ولا تحصى على حقوق الإنسان الفلسطيني تحت الإحتلال..، كل هذا مخالف لجميع المعاهدات والقرارات والقوانين الدولية التي تبناها وأجمع عليها المجتمع الدولي فيما يتعلق بالإحتلال. فلا يزال الكيان الصهيوني يتنكر لتلك القوانين والمعاهدات ويعتبر نفسه فوق القانون وفوق المساءلة.
من غير المقبول ولا المعقول بأن من يدعو للتساوي في الحقوق والواجبات بين الشعوب من فوق المنابر العالمية ويصدح فيها جهاراً نهاراً، أن يمارس سياسة التمييز والتفرقة، ويَخضع للضغط الصهيوني وللإبتزاز السياسي، وفي هذا فإن عمق الفجوة وبُعد مسافة إنعدام الثقة بين الشعوب -لا سيما الشعب الفلسطيني- والمنظومة الدولية آخذة بالإزدياد والإتساع؛ فالمسألة تحتاج إلى إلتزام جدي حقيقي بما صدر عن الدول المؤسسة للهيئة والموقعة على الإعلان.. وليس إلى إلتزام نظري صوري، يحول الضحية إلى جلاد والعكس.
*المنسق الإقليمي لمركز العودة الفلسطيني/لندن
كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني