قراءة في الفكر الوطني والقومي للشهيد وصفي التل في ذكراه الثالثة والاربعين
يبدأ الموت عادة كبيراً، ثم تفعل الأيام فعلها فيه فيصغر، ويلف النسيان من تضمهم الأرض، الا في حالات قليلة مثل حالة وصفي التل؛ فقد بدأ موته فاجعاً وظلّ يكبر كل يوم، وها نحن وبعد مرور ثلاث وأربعين عاماً، نحس أنه ما زال بيننا، نشم شذاه في كل بيت أردنيّ، ذلك أن سيرة وصفي امتزجت بسيرة الوطن كله.
وصفي الابن البكر لشاعر الأردن الفذ مصطفى وهبي التل، ولد بعيداً عن بلده وأهله، ولقي حتفه بعيداً عنهما. أكمل وصفي دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت دارسا للعلوم والفلسفة.
عمل بعد تخرجه مباشرة في مهنة التعليم، حيث عين مدرساً في مدرسة الكرك، ثم نقل إلى مدرسة السلط الثانوية.
وعشية الحرب العالمية الثانية لفت نظر وصفي- كما لفت أنظار الشباب العربي- انخراط الشباب اليهود مع جيوش الحلفاء، وتشكيل الفيلق اليهودي، وذلك للحصول على التدريب العسكري، لخوض معركتهم مع العرب فيما بعد. كانت هذه الأفكار التي سيطرت على معلم السلط كافية لتدفعه إلى ركوب أول سيارة متجهة إلى القدس ليطلب الانضمام إلى إحدى فرق الجيش البريطاني، ليحصل فيها على التدريب العسكري، حيث بقي في الجيش حتى نهاية الحرب.
وبعد الحرب عمل في المكتب العربي في القدس الذي كان أول هيئة تنظيمية لتوعية المواطنين في الداخل وتدريبهم، وكان يرى ضرورة تشكيل الوحدات الضاربة المتحركة التي تنطبق أوصافها على تصوره الذي سبق أن حدده في دراسة متكاملة، والذي يمكن أن يخوض معركة إنقاذ فلسطين.
على أن تصدع الجبهة السياسية الداخلية في فلسطين، ومخاوف دول الجامعة العربية من بعضها البعض، قد وضع المشروع على الرف، وبقي أسلوب التسليح الفردي مستمرا حتى إعلان مشروع التقسيم عام 1947.
وفي هذه الظروف تشكل جيش الإنقاذ، وكان وصفي التل من أوائل الذين انخرطوا في صفوفه، مديرا للحركات الحربية فيه، ثم انتقل آمرا للواء الرابع الذي قاتل قتالاً ضارياً في الجليل.
وخاض معركة الشجرة وأصيب بشظية بقيت أثارها في ساقه. ولما كانت الجيوش العربية قد دخلت الأراضي الفلسطينية يوم 15 أيار 1948، وأخذت زمام القيادة من جيش الإنقاذ أولاً، ثم احتوت جميع الحركات الشعبية الفلسطينية والعربية المسلحة، فقد اعتبرت مهمة جيش الإنقاذ واللجنة العسكرية قد انتهت.
بعد وقف القتال في حرب عام 1948، تقرر أن تدخل ارض فلسطين وحدات مسلحة من جيش الإنقاذ بقيادة وصفي التل، الذي كان في ذلك الوقت برتبة مقدم في الجيش السوري، حيث اجتمع بالضباط الأردنيين والفلسطينيين، واخبرهم أن مهمتهم الحالية هي الدخول إلى فلسطين، والقيام بعمليات عسكرية للحيلولة دون استقرار العدو، الا انه لم يتيسر لهذه الخطة أن تتم بسبب انقلاب حسني الزعيم، الذي حل جيش الإنقاذ، وابعد وصفي التل وغيره من العسكريين الأردنيين إلى الأردن.
وبعد عودته إلى الأردن شارك في إصدار مجلة الهدف، عام 1950 تحت شعار " مجلة السياسة القومية والأدب القومي" وقد شاركه في إصدارها كل من : برهان الدجاني وأنور الخطيب ويحيى حمودة ، كما كان من أبرز المساهمين فيها حازم نسيبة، وعبد الله نعواس، وعرفات حجازي، وموسى الحسيني. نشر وصفي في أعداد الهدف قصة جيش الإنقاذ وكافة المعارك التي خاضها مع تحليل عسكري وتقييم لكل هذه المعارك.
في عام 1955 عين مستشار للسفارة الأردنية في بون، فكان من طراز الرجال الذين يستشرفون آفاق العمل القومي، خارج نطاق الوظيفة، ومن هذا المنطلق كتب من ألمانيا الغربية إلى جمال عبد الناصر عام 1956، يعرض عليه استعداده للقتال ضد قوات العدوان الثلاثي. إلى أن انتقل عام 1957 رئيسا للتشريفات الملكية، وبعدها بعام تسلم منصب القائم بأعمال السفارة الأردنية في طهران، وفي عام 1959 شغل منصب المدير العام للإذاعة الأردنية، ورئيسا للتوجيه الوطني، وفي عام 1960 عين سفيرا للأردن في بغداد.
هذه المناصب كانت تقنع المسئولين بان وصفي التل ليس مجرد موظف روتيني، بل كان له شخصيته المتميزة، وبصمته الخاصة، وكان يملك دوما الخطط المدروسة والواقعية؛ فعندما تسلم مديرية المطبوعات شهد الأردن أضخم نشاط صحفي، وعندما تسلم مديرية الإذاعة والتوجيه الوطني سمع العالم، بل وكذلك الأردن لأول مرة بالأغنية الأردنية الأصيلة.
قام وصفي بتشكيل الحكومة خمس مرات ولكن على ثلاث مرحل، وعندما كلفه الملك حسين – رحمه الله- بتأليف حكومته الأولى في 28 كانون الثاني عام 1962، كان قد عرف تمام المعرفة شخصية وصفي، ونظرته العلمية نحو الدولة والمجتمع.
وكان عندما يتحمل مسؤولية الحكم لا يأتيه شرها للجلوس على كرسي الحكم، كان يأتي وفي جعبته قضية، وفي حقيبته مخططا؛ ففي الوزارة الأولى أعاد تنظيم أجهزة الدولة، وحارب الفساد الإداري كالرشوة والمحسوبية، ورفع المستوى الوظيفي للإدارة.
وتم تأسيس أول جامعة في الأردن، وتأسيس مؤسسة رعاية الشباب، ودائرة الثقافة والفنون، وبنك الإنماء الصناعي، كما تم إقرار برنامج السنوات السبع للتنمية الاقتصادية 1964- 1970. كما عمل وصفي من اجل كسب ثقة الحزبيين والمعارضين، فقد صادق مجلس الأمة في أوائل شباط عام 1962 على قانون للعفو العام شمل المعتقلين والفارين، إضافة للضباط الذين حكمت عليهم المحاكم بتهمة محاولة قلب نظام الحكم في إحداث عامي 1957 و 1958.
ووعد في بيانه الوزاري أن تكون حكومته خادمة للشعب لا حاكمة له. أما في وزارته للمرحلة الثانية فقد أرسى قواعد إعداد المواطن للمعركة، فكان أول من تنبه إلى ضرورة الاهتمام بالشباب ، فافتتح المخيمات الصيفية لهم، وأشرك القوات المسلحة في عملية البناء والتنمية من خلال شق الطرق، وحفر الآبار، وتمديد الأنابيب، وتدريب الشباب.
كان وصفي أول رئيس وزراء اختط زيارة المحافظات للاجتماع بالناس والاستماع إلى ما يريدون. وفي عهد وزارته الأولى عقد أكثر من جلسة لمجلس الوزراء في القدس، وأعلن أنها العاصمة الثانية للمملكة. وكان أول من اقر أن يكون عيد العمال عطلة رسمية، وكان يحرص على مشاركة العمال احتفالاتهم أما وزارته الأخيرة فقد كانت الأمة في محنة، والوطن في أزمة، والمواطن غير آمن ، وأهم من كل ذلك فقد أصيبت قضية التحرير بنكسة، أما قضية الوحدة الوطنية فكانت مهددة بأفدح انشطار.
موقفه من حرب 1967 عارض وصفي التل دخول الأردن حرب حزيران 1967، عندما كان رئيساً للديوان الملكي، وكان يرى أن الهزيمة ستكون محققة؛ لأن العرب غير مستعدين لخوض الحرب. وبعد انتهاء الحرب بثلاثة أيام استقال وصفي من منصبه. ولكن وصفي الذي عارض دخول الحرب لم يلبث بعد الهزيمة أن أخذ يقول: الآن علينا أن نحارب، وكان يرى أنه لا يمكن الوصول إلى حل مشرف إلا بالحرب، وإن إسرائيل لن تنسحب من الأراضي المحتلة بغير قتال.
وكان أمله في النصر واستعادة الأرض والكرامة يعمران قلبه، وكان يقول : الأمم تنتصر وتنهزم، وهذا أمر طبيعي، ولكن الركون إلى الهزيمة وعدم دراسة أسبابها هو الأمر غير الطبيعي، وكان ينظر إلى هزيمة حزيران على أنها هزيمة نفسية أولا، وهزيمة عسكرية ثانيا. وكان يرفض الحلول السلمية لأنها في رأيه تعالج الأعراض العسكرية للهزيمة، أما الآثار النفسية للهزيمة فلا علاج لها إلا بنصر عربي، وكان يعتقد أن هذا النصر ممكن، إذا استفادت الأمة العربية من تجاربها، ونظمت صفوفها، وحشدت إمكاناتها.
وكان يؤكد على الدوام أن الأردن يجب أن يكون الأنموذج العربي في بناء القوة الذاتية، وفي حشد المجتمع، وتوحيد الصفوف، ومن هذا المنطلق طرح شعار بناء مجتمع قرطاجنة، المجتمع الذي تنتظم فيه كل الإمكانات البشرية والمادية وتحشد ، من اجل تحقيق النصر.
مثّل وصفي التل نموذجا خاصا للاهتمام الأردني بفلسطين وبقضيتها، وكان من الأردنيين القلائل الذين كيفوا حياتهم فكرا وعملا من اجل فلسطين، وقضوا من اجلها، وكان من العرب القلائل الذين امتلكوا نظرية مدروسة متكاملة للرد على العدو الصهيوني، وكانت نظريته تقوم على أساس أن الرد على العدو الصهيوني لا يتحقق إلا من خلال قيام دولة عربية متحدة إلى الشرق من الكيان الصهيوني، تشمل الأردن وسوريا والعراق، لان قيام هذه الدولة هو الضمان الحقيقي لحصر العدوان ثم دحره خارج الوطن العربي، وكان يعتقد أن قيام هذه الدولة بحد ذاته، علامة بارزة في طريق الوحدة العربية، بصرف النظر عن أي أسلوب أو وسيلة تستخدم لتحقيقه.
اقترح وصفي التل تطوير أربع جبهات رئيسة، ثلاث منها دفاعية، ورابع للهجوم والتصدي، والجبهات الدفاعية هي : الجبهة الشمالية لسوريا، والجبهة الشرقية للأردن، والجبهة الجنوبية لمصر، أما الجبهة الرابعة فسماها الجبهة الوسطى، وتتشكل بصورة رئيسية من الفلسطينيين، وتعمل داخل الأراضي العربية المحتلة لاستنزاف العدو، وتتحرك وتهاجم من جميع الجهات، ومن الداخل، في إطار إستراتيجية عربية محددة للمواجهة.
وعلى أساس هذا المشروع الذي طرحه وصفي التل، اتفق مع قادة المقاومة في الأردن على إعداد كوادر الجبهة الوسطى، وطلب اختيار ما يعادل مجموعة لواء ليعاد تدريبه في معسكرات تدريب القوات الأردنية الخاصة على هذا النوع من القتال. وكان يردد دائما: سأجعل كل فرد من أفراد قوات هذه الجبهة الوسطى من خلال التدريب المكثف، يكافئ في قدرته على الصمود وكفايته في القتال عشرة من المقاتلين العاديين.
ويحدد وصفي التل مجموعة من الأوهام والخرافات التي يجب أن نزيلها من أذهاننا على الشكل التالي:
1- خرافة الحلول السلمية بشتى أشكالها وصورها.
2- خرافة احتواء إسرائيل، أو إمكان التعايش، أو الانسجام معها.
3- خرافة الاعتماد على ما يعتقد أو يبدو انه متناقضات بين مختلف الأحزاب والطبقات اليهودية داخل إسرائيل.
4- خرافة الاعتماد على الضغوط والوساطات الدولية والرأي العام العالمي.
5- الأوهام التي تتوقع إمكان انسحاب إسرائيل من بعض الأراضي المغتصبة أو كلها دون ثمن غال تأخذه، أو من إكراه شديد لا يكون بمحض إرادتها.
6- خرافة وأوهام من يعتقدون أن في وسعنا أن نتحاشى صداما مصيريا مع الصهيونية. وصفي التل والعمل الفدائي كان وصفي التل يرى أن الفدائيين يجب يوجهوا نشاطهم إلى داخل الأراضي المحتلة، وأن تتمركز المقاومة في الأرض المحتلة، وتنشئ لها قواعد هناك، وكان يريد من العمل الفدائي في الأردن أن ينسق مع سلطات الدولة، كما هو الحال في سوريا والأقطار العربية الأخرى.
إلا أن زمام الأمن بدأ يفلت في الأردن بعد معركة الكرامة؛ إذ اشتدت هجمات العدو على قواعد الفدائيين، فأخذ هؤلاء يتراجعون إلى المدن ويقيمون قواعدهم فيها، وأخذت نشاطاتهم تتخذ طابعاً سياسيا، بحكم تعدد المنظمات، وتبعية أكثرها لدول عربية.
والذين عرفوا وصفي جيداً يعرفون أنه لم يكن خصما للعمل الفدائي، أو ليس طرفا ثانيا للعمل الفدائي، بل إنه في طليعة اللذين نادوا بقيام العمل الفدائي، فقد كان وصفي رجلاً عسكرياً ومناضلاً، وله تجربته العملية الطويلة، وقد لاحظ خطئًا حاول إصلاحه بشتى الوسائل، ولما أيقن أنه قد دس على العمل الفدائي أعداء للمعركة، وأعداء للأردن، وأعداء للعروبة، وأعداء للتحرير، فقد وقف أمام هذا الدس بصلابة وجرأة وشجاعة، وأعلن أنه يحمي العمل الفدائي المقدس من الذين تسلقوه لأغراض لا علاقة لها بالفداء من قريب أو بعيد.
لقد بدأت الخلافات بين المنظمات متعددة المشارب والمرجعيات السياسية والفكرية تظهر أمام الرأي العام، بل أن هذه الخلافات تجاوزت الرأي العام المحلي بل والعالمي، وكان وصفي قد وصل في تلك المرحلة إلى قناعة بأن انهيار الحكم في الأردن هو من أول أهداف الإستراتيجية الإسرائيلية.
كانت هذه أفكار وصفي التي بلورها بعد أن بدأت نذر الانشقاق في بعض قيادات المنظمات، وبعد أن بدأت العناصر الدخيلة المدسوسة تتسرب إلى صفوف الفدائيين، وبعد أن تكاتفت عدة قوى أجنبية لإيجاد حل وتصفية للقضية الفلسطينية على أساس التخلص من المملكة الأردنية، وإشباع رغبة بعض العرب بدولة فلسطينية، ولو لم تكن على شبر واحد من أرض فلسطين.
وكان وصفي التل في طليعة المؤمنين باستحالة موافقة إسرائيل على الحل السلمي، واستحالة جلائها عن شبر واحد من الأراضي المحتلة بغير القوة، وكان يؤمن بضرورة الحشد العسكري: جيشا وشعبا وفدائيين، في خطة واحدة وتحت قيادة واحدة، حتى يمكن أولا إفشال مؤامرة تخريب الأردن، على أساس أن الأردن هو القاعدة الرئيسة لكل جهد عسكري، ثم حتى يمكن خوض معركة موحدة مع العدو الذي يدير شؤونه المختلفة تحت قيادة واحدة مستندة إلى العلم والقوة والتجربة والتخطيط.
الحكومة الأخيرة شكل وصفي التل حكومته الخامسة بعد فتنة أيلول بتاريخ 29 تشرين الأول عام 1970، وقد قوبل تكليفه بموجة ارتياح عارمة في مختلف أوساط القوات المسلحة والفدائيين والشعب، وكان من مظاهر هذا التأييد توقف أجهزة إعلام المنظمات عن مهاجمة الأردن، وتقاطر الوفود التي هرعت لتهنئته، وكان وفد اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية من أول الوفود التي قامت بزيارته في مكتبه في اليوم الأول من استقباله للوفود.
وفعلاً كادت الأمور تسير وفق ما يتمناه كل عربي مخلص، إلى أن ظهرت مواقف بعض الدول العربية بعد أكثر من أسبوع، وكان في هذه المواقف تحريض للمنظمات على عدم التعاون مع الحكومة الأردنية.
ولا شك أن من اكبر الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها بعض المنظمات وسكتت عليها البقية الأخرى، هو رفعها شعار(لا سلطة إلا للمقاومة)، وترديدها علنا وفي صحف أخذت تطبعها وتوزعها في الأردن، وفي خطابات تعقد لها المؤتمرات في أحياء العاصمة، ومختلف المدن والقرى الأردنية، وهي تعلن صراحة بضرورة إزالة النظام الأردني. ويؤكد وصفي أن خطة حكومته قائمة على وضع العمل الفدائي على طريقه الصحيح؛ إذ أن العمل الفدائي كانت له بداية جيدة، لا يمكن لأحد أن ينكرها على الإطلاق، وخاصة عندما بدأت بالقلة المقاتلة المصممة على التحرير.
وفي تلك المرحلة لم يكن من مواطن أو جندي يبخل في أن يفتدي العمل الفدائي بنفسه وماله، أما بالنسبة للقوات المسلحة الأردنية فقد كان العمل الفدائي يجري بحمايتها ودعمها، وكانت المدن والبلدات الأردنية عرضة لغارات جوية عنيفة سقط فيها العشرات من الشهداء المدنيين والعسكريين.
ولكن بعد هذه المرحلة بدأ الانفلات يتسرب إلى العمل الفدائي؛ فالحزب السياسي الفاشل وجد لنفسه بابا عن طريق العمل الفدائي، والانتهازيون والخارجون على القانون استطاعوا إخفاء أنفسهم ونواياهم، فتستروا أيضاً بالعمل الفدائي، كما ساعد تسرب العملاء وخاصة الذين جندتهم إسرائيل، واستطاعوا أن يكونا عنصراً هاماً في تخريب وتوجيه بعض المنظمات.
ويؤكد وصفي التل أن هذا الوضع لم يكن من باب الاستنتاجات، بل هو حقائق ووثائق اعترفت قيادات الفدائيين بمعظمها.
وعندما يروي وصفي كيف وقعت فتنة أيلول لا ينسى أن يؤكد انه لا يتهم الفدائيين جميعهم؛ إذ أن هناك عناصر مقاتلة شريفة وشجاعة تعرف واجبها وهدفها، وتتصف بمستوى خلقي وسلوكي عالي، ومدربة ومؤهلة للعمل الفدائي الشريف والحقيقي. الرحلة الأخيرة في 25 تشرين الثاني من عام 1971 اختتم رؤساء أركان حرب الجيوش العربية في القاهرة اجتماعاتهم التي كانوا قد بدأوها في اليوم السابق.
وتقرر أن يبدأ مجلس الدفاع اجتماعاته يوم السبت 27 تشرين الثاني. ولما كان وصفي يتولى منصب وزير الدفاع، إضافة لكونه رئيس مجلس الوزراء، فقد قرر أن يحضر شخصيا تلك الاجتماعات بوصفه وزير الدفاع الأردني. قال لأصدقائه قبل السفر هذه الجلسة حاسمة وأساسية، وعندي برنامج عمل أريد أن يتبنوه، عندي خطة تقوم على العقل، وأريد أن أرى إذا كان العرب يقصدون أن يتخذوا سبيل العقل والمنطق. إن لدى العرب إمكانات كبيرة يجب أن تنسق بشكل صحيح وبإخلاص.
يجب أن أحاول وإذا أخفقت فسوف أطلق السياسة إلى الأبد. وفي 26 تشرين الثاني سافر وصفي، وودعه الملك حسين بنفسه، وكان الحسين يدرك خطورة الخطوة التي أقدم عليها وصفي، ويعرف أن رئيس وزرائه يعرض نفسه لمجازفة كبيرة، وفي 28 تشرين الثاني اغتيل وصفي أثناء دخوله فندق الشيراتون في القاهرة. إن الذي قتل وصفي التل هو فكره وقناعاته وخططه، فهذا الفكر يمثل خطرا حقيقيا على إسرائيل، كما أن الرئيس أنور السادات كان يخطط للصلح مع إسرائيل منذ توليه المسؤولية بعد رحيل جمال عبد الناصر في أيلول 1970، كما أن قتل وصفي يؤدي من وجهة نظر من خططوا له ونفذوه إلى قطيعة أردنية فلسطينية قد تستمر سنوات، وهكذا وجدت كل هذه الأطراف أن الطريقة المثلى لوأد مخطط وصفي هو اغتياله.
ودوّى النبأ الفاجع يقول للدنيا كلها بأن وصفي التل قد سقط شهيدا بيد الخسة والعمالة، ليكون سقوطه قمة حياته وتجسيدا لانتصاره، وانتصار مبادئه وأفكاره. لقد سقط وصفي شهيدا خالدا وبقي العار يلطخ الذين تآمروا عليه، وغدروا به، بعد أن عجزوا عن مقارعته الحجة بالحجة. كان وصفي ابنا بارا شجاعا أعطى وطنه وأمته عمره وشبابه، وما كان لوصفي إلا أن يكون كذلك فهو فارس من فارس، والده شاعر الأردن الخالد مصطفى وهبي التل، الذي تغنى في شعره بكل حبة تراب أردنية، وعاش وصفي ليعمّد كل ذلك الحب للأردن بروحه الزكية.
لقد ظلم وصفي التل لأنه كان يلتزم بمبادئ ومناقب الخلق والعقل والصراحة والجرأة، ومن سوء حظه انه عاش في ظل واقع سياسي عربي يسوده الجبن والتهريج والاتهام والادعاء، لكن طبيعة الأشياء تقتضي استحالة التوافق بين المناقب والمثالب.
وفي يوم الاثنين 29 تشرين الثاني شيع الأردن كله وصفي التل من منزله في ضواحي صويلح إلى المقابر الملكية في عمان، عشرات الألوف ساروا وراء الجثمان، وكان الحسين يتقدم موكب الجنازة. كان هناك شعور عام بالفجيعة، وكان هناك استنكار جماعي للجريمة لا فرق بين فلسطيني وأردني، بكاه الحسين وبكاه الأردنيون والفلسطينيون. أعطى وصفي عمره للأردن، مع أن مفارقات القدر شاءت أن يولد في العراق وان يموت في مصر، كأنه ساعة موته كان يذكر بيت شعر لأبيه مصطفى: يا أردنيات إن أوديت مغتربا فانسجنها بابي أنتن أكفاني.
ونسجت الأردنيات أكفان وصفي بدموعهن، وبقي وصفي تاريخا لا يمحى وذكرى لا تموت. يذكره الفقراء كلما نهش الغلاء والجوع أبدانهم، فقد كان واحدا منهم، يذكره الضعفاء والمساكين كلما أحسوا أن وحش الفساد والرشوة وشراء الضمائر يكشّر عن أنيابه نحوهم، فقد كان السّهم الذي يرمي كل فاسد ومرتش فيصيبه في مقتل.
يذكره الآباء كلما أحسوا أن متطاولا يحاول أن يمس هيبة دولتهم، فقد كان خير من يمثل هيبة الدولة والنظام، يذكره الأعزة كلما حاول عابث أن يمس كرامتهم، فقد قضى فداءا لكرامة شعبه ووطنه وقناعاته، يذكره الفلاحون فقد كان صوت زرّاع الأرض التي أحب وافتدى.
نذكره ونحبه، فالشعوب تحب من أبنائها من لا يستكبر ولا يستعلي عليها، ولا يترفع عنها، وقد جمع بين حبه للأرض الأردنية المعطاء، والمواطن الأردني الطيّب في كل المواقع.
وهو صاحب الرأي الحر الجريء، والفكر السياسي المستنير، والموقف الواضح الصريح. عاش ملتزما بالقيم الأصيلة، وخلاصة الفكر الإنساني المتجدد، وظل من القادة الأردنيين المعدودين، الذين وجد فيهم المواطن فلاحا وجنديا ومثقفا، استجابة أمينة لحاجاتهم وآمالهم.
إن واجبنا ونحن نقرأ هذه الصفحة المشرقة من تاريخنا الوطني، أن نحيي قيما وأخلاقا كانت تسود في وطننا، عندما كان الاحترام هو العلاقة الأميز في مجتمعنا، وكان لقوانا السياسية أخلاقياتها وطموحاتها التي تتجاوز الأشخاص.
وكان هم الذين يصلون إلى مواقع المسؤولية أن يضيفوا إلى البناء الوطني مداميك تعليه، وليس رجالا ينفقون من رصيده شعبا وإنجازا، فالشعوب والأوطان ليست حقول تجارب للمغامرين، وعابري السبيل والفاسدين. إن إحياء سيرة الشهيد وصفي التل، والتحدث عن مناقبه وسجاياه، وتحليل المبادئ الوطنية والقومية التي صاغت فكره السياسي، ووجهت سلوكه في كافة مراحل حياته، يقدم لأجيالنا نموذجا فذا يحتذى به في الرجولة والشجاعة والوطنية وصدق الانتماء، ومثلها الأعلى في تحمل المسؤولية، وإدارة الحكم بالعدل والأمانة والنزاهة، وطهارة اليد ونقاء الضمير.