حالة وطنية فريدة
حتى لحظة إعلان استشهاد معاذ، كان القلق يسيطر على الأردنيين لغياب الأفق أو عدم وضوحه. وإذ فعل معاذ الاستثناء في حياته؛ حين وقف صامدا عزيزا في وجه الإرهابيين، فإننا نراه في رحيله أيضاً يصنع ما عجزت حكومات وخطابات رنانة عن فعله.
معاذ الغائب الحاضر، يصنع اليوم حالة أردنية مختلفة لا يجوز أن تمضي من دون أن تستثمرها الدولة بشكل فعال. فالأردن ما قبل معاذ يختلف عن الأردن ما بعده.
حتى ما قبل أيام فقط، كان الجو العام يفتقد لهذه اللُحمة، وكان الانتماء فكرة ضبابية غير جلية، لم يمارسها كثيرون. وتعالت الأصوات التي تنادي بتمتين الجبهة الداخلية، تحذيرا من وضع غير مستقر، ومستقبل مبهم.
اليوم، الحال مختلفة؛ ثمة روح وطنية ولّدها الشعور بالقهر والغيظ من الإرهابيين وحبهم للظلام.
إذ لم يدرك القتلة أن جسد معاذ سيشع في أرض الأردن وسماه، وأن روحه ستبعث في الوطن الانتماء بأبهى صوره.
اليوم، جميع القوى السياسية، حتى المعارضة منها، تصطف في جبهة الأردن، وإن كان بعضها يقف على استحياء. فما يجمعنا الآن حب الأردن والحرص عليه، والرغبة في مواجهة الإرهابيين ثأرا لكرامة الأردنيين الذين مسّتهم جميعاً الجريمة بحق معاذ.
لأن الزمن سريع، والأحداث متتالية، فإن هذه الحالة الأردنية لم يشعر بها الناس منذ سنوات. وهي الحالة التي يجب استثمارها في نقل الأردن إلى مرحلة جديدة، توثّق الروابط القائمة اليوم وتبني عليها. فاليوم، الثقة بالدولة تنمو، وثمة هدف واحد يُجمع عليه الأردنيون، كما لم يحدث منذ سنين.
الغاية هي اجتثاث الفكر الإرهابي والظلامي، وبناء مستقبل آمن للأجيال القادمة. ما يفتح الباب واسعا على جبهة حرب أخرى أخطر من الحرب على تنظيم "داعش" بكل دمويته. فالحرب الجديدة فكرية، وهي أكثر استعصاء من التعامل مع وحشية "داعش" وإرهابه.
فالإرهابيون تتكفل بهم طائرات سلاح الجو وصقورها من إخوة معاذ الذين قصفوا قتلته. فيما جنود الحرب الأخرى وجبهاتها من نوع مختلف.
المعركة الأصعب هي معركة التنوير التي مهد معاذ الطريق لها بقصفه للدواعش مرة، وحين جاء وقع الصدمة باغتياله مجلجلا للناس؛ فأظهر بشاعة الفكر الذي يتغلغل فينا ويفتك بشبابنا، ويسيطر على رؤوسهم الصغيرة.
الانتصار الأهم هو اجتثات هذا الفكر. الأمر الذي يحتاج إلى عقلية مختلفة، تدرك أن الجبهة الداخلية تحتاج إلى تكتيك مختلف. لكن الفرصة تبدو سانحة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وقد زال ذلك التعاطف الذي ساد لبعض وقت مع "داعش".
أجزم أن إجراء استطلاع جديد اليوم، سيكشف عن نتائج مختلفة ومواقف حاسمة من هذا التنظيم الذي جسّد كل بشاعته بطريقة تعامله الوحشية مع معاذ؛ إذ لم يبقَ إنسان عادي وطبيعي قادر على التعاطف مع هكذا إرهاب وإرهابيين.
الأردنيون جبهة واحدة وصوت واحد، يؤكدون أن الحرب على "داعش" هي حربنا. وهم أيضاً متوحدون في الحرب على الفساد وغياب التنمية والفقر والبطالة. لكن ذلك لا ينفي أن لديهم طموحات وأحلاما طالما تحطمت على مذبح الحكومات المتعاقبة.
الأردنيون كشفوا بحق عن حبهم وحرصهم على وطنهم، وتوحدهم في وجه الشر. والآن، جاء الدور على الحكومات والمؤسسات لكي تكشف لمواطنيها حقيقة مشاعرها، وتقول لهم ماذا ستفعل لتضمن للأردن وشعبه حاضرهما ومستقبلهما، فنمضي جميعاً بالوطن نحو الأمل بثبات.
لا يكفي أن نحارب الإرهاب في الخارج، بل علينا محاصرته في الداخل. إذ إن إغلاق الأبواب في وجهه على الواجهات الحدودية، لا يعني أن النوافذ مغلقة، فهي كثيرة ومتعددة، ولا يكون إغلاقها إلا بالتنوير والمشاركة الحقيقية للمجتمع في تقرير مصيره، وتمثيله بحق في كل شيء.