أَحرقٌ لجسد معاذ أم تحذير؟
أَحرقٌ لجسد معاذ أم تحذير؟..
معاداة الأخوان المسلمين أو بلورة برنامج إحياء علوم الدين ..
قال تعالى: " و أصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدِى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين."الآية 10، سورة القصص .
كنت أستمع لأم معاذٍ (نخوتنا) و هي تسعى إلى بلورة موقف عبر شاشة التلفزيون الأردني في أول بوحٍ لصوتها عقب المحنة. كنت أستمع للـ(خية) الكركية بدموع القلب لكن ما قالته جعلني في حالة من الصفاء والتأمل شديدين ورحت أفكر طالما أن هذه الأرحام تأوي أجنتنا فلا خوف علينا كأمة و لن نحزن، هذا في الصفاء.
أما التأمل فإن دهشة أكثر من القلق وأكثر من اليقين معاً قد فجرتهما أم معاذ في قول ما قالته على طول المكالمة مع التلفزيون الأردني، كانت هذه الأردنية السيدة تسعى و هي تحث بالمناشدة أبناءها الطيارين الأردنيين للأخذ بثأر رفيقهم معاذ.
كانت تسعى و هي المربية المعلمة الفاضلة إلى حشد الأسباب الدينية و إيجاد مبرر أو مرجع ديني تستند عليه في محاولة تكفيرها أو إيجاد وسائل لتكفير الخصوم لضربهم، كان ذلك الحشد من تسبيبها بأنهم كفرة (داعش) و أنهم (الدولة الإسلامية) خارجون عن الدين و أنهم قد اقترفوا الحرام في حرق فلذة كبدها و التمثيل بالأجساد و خرجوا عن تقاليد الأمة المعروفة في التعامل مع الأسير.
استوقفني هذا القلب الباكي من أمٍ أحصنت قلبها بالعز لكنها كانت بحاجة إلى تأصيل موقفها بالدين و إقناع الطيارين بأن عدوهم (كافر)، و تساءلتُ بمرارة كيف لسيدة مكلومة حد الإنهيار و في خضم أزمتها الروحية العاصفة السعي لإيجاد فتوى للإنقضاض على العدو، و في الوقت نفسه فإن بعض المراجع الدينية من أخوان المسلمين و بعض تنظيمات هنا و هناك قد تلعثموا وترددوا وكان الخفر والحياء هو السائد في إدانتهم للذي جرى مع (معاذ).
قبل أن أبدأ أردت أن أستهل مقالتي بنقاطٍ ثلاثة في صورة ما يصفه أهل الفقه بـ(الأخذ بالأحوط) كي لا يساء فهم بعض ما أود قوله.
الأولى: إن هذه المقالة و ما يليها لا تمت بصلة إلى السياسة مهما بدت لغتها مسيسة.
الثانية: أود الإلتماس من أي قارئ أيا كان دوره أو ملاذه الديني أن يتذكر إنني خارج أطر مؤسسات الدولة رغم بيعتي الشرعية للحاكم الهاشمي ولذا فما أود قوله ليس ترويجاً لفكرة أو لفكر أحد و إنما ومضة شخصية أتحمل تبعاتها وحدي قانونياً و أخلاقياً.
الثالثة: هذه المقالات دعوة مفتوحة لأن يكون الثالث من شباط (فبراير) 2015 يوم مأساة إشهار استشهاد معاذ فينا، و الذي أُقترفت جريمة إحراقه قبل شهر، محاولة للإجابة على سؤال أكاد أراه خطيراً و حساساً هل كان حرق معاذ الجسد أم حرق معاذ المفهوم؟ و هل النار التي شبّت ستكتفي بمعاذ الجسد أم أنها خطة للزحف على معاذ المفهوم؟
و معاذ المفهوم في هذه اللحظة عندي هو معاذ الأردن كله و دول الأمة كلها..
أبدأ فأقول..
لا أرى نفسي مخطئاً في الرصد لتاريخ الأردن و حركته السياسية و الاجتماعية حين أزعم أن 24 أيلول 1992 و الثالث من شباط عام 2015 قد كانا أهم حدثين في آخر نصف قرن بالأردن بمعنى إن هذين اليومين كانا عنواناً للوحدة الأردنية لمفهوم الوطن و لمعنى الوطنية الأردنية.
كان الحدث الأول هو عودة مرض الحسين رحمه الله من مرضه بعد أن شفي من مرض السرطان في أول مواجهة بينهما.
لقد وصف الحسين رحمه الله مواجهته للمرض لأحد الصحفيين العرب قبل إجراء العملية بقوله: (هذه معركة غريبة علي في خوضها، فكان أعدائي دوماً أعرفهم و أعرف كيف أخطط لمواجهتهم أما هذا المرض مباغت يصحو عندما أنام و أنام عندما يصحو، و هذا سر وجعي بقدرته على الإحتيال و الغموض.)
و لقد عاد هذا الوجع للأردنين كلهم على مدار شهر مرة أخرى بنفس ما وصفه الحسين، لكنه كان سرطاناً من نوع آخر استفشى ورمه بعيداً هناك في الرقة خارج السيطرة و اضطروا التعامل معه مدة شهر. لكن الأردنيين في المرضين و الحالتين كسبوا وطناً و كسبوا ملكاً.
أعود لفكرة وحدة الأردنيين.
قد يظن من يظن إنني أتحدث شعراً حين أقول إن قدرة معاذ الكساسبة المدهشة كانت أخطر و أهم من قدرة مرض الحسين و حرب دخول العراق للكويت في بلورة ضمير وطني عامٍ شامل موحد ذلك أن المرض الأول عام 1992 قد سبقه مبررات موضوعية للالتفاف حول الملك إلتفافاً إنسانياً و عاطفياً و عربياً، أعني أزمة إختلاف العرب على كيفية إخراج العراق من الكويت.
كانت الأرض ممهدة عام 1992 لمحمد مهدي الجواهري لينوب عن الأردنيين مخاطباً الحسين (تأبى المروءة أن تكون عليلاً)، لكن معاذاً وحدهم عقب أ-الربيع العربي و ب-سطوة الأخوان المسلمين بالتدين و بالتنظيم وبالحرد، وأيضاً ج- بفتية الإصلاح الأمريكي الذين كانوا ولا زالوا يتشبثون بمفهوم أجنداتهم الإصلاحية في حق الطفل و مساواة المرأة و حفظ حقوق الأقليات و تقديم مشروع الديمقراطية السياسية على متطلب الاستقرار.
كل ذلك كان في ما قبل معاذ بالإضافة إلى إطارات الدولة التي استنفذ فيها (الأمني) في الثلاث سنوات الماضية ذوب قلبه و عصارة احتياطه في الحفاظ على الاستقرار كحاجة و التعاطي مع الديمقراطية كموجة. و في ظل عقم الرحم السياسي لكادرات الدولة و نخبها الذين تفرقوا أيدي سبأ فمنهم من احترف النقد كمتقاعد رافضٍ لتقاعده لأنه صالح لكل زمان و مكان و منهم من سلق سلقاً و فوجئ بخروجه من الوظيفة و راح يتدبر أمره في جاهة لخطبة هنا و محاضرة هناك و افتتاح نادٍ رياضي فيما بعد ليقول بعض أفكاره النظرية، و قسم من النخب من أبناء الدولة و كوادرها قد تشبثوا بمفهوم فرض الديمقراطية بالطريقة الأمريكية المجردة رغم فشلها الذريع في التطبيق في العراق و مصر و داخل السلطة الوطنية الفلسطينية و ذهبوا للولايات المتحدة و عادوا، بعضهم أو كلهم، ليبشروا بإلحاح غريب يشبه اليقين أنه لا بديل عنها.
أما الأخوان المسلمون فتلك حكاية أصبحت حكاية العصر عندنا، سأعود لها لاحقاً، إذ تدحرج موقفهم من جمعية خيرية نالت الرضا من المؤسس الشهيد عبدالله رحمه الله و انطلقوا من رحابه في أربعينيات القرن الماضي إلى مزاعم لاحقة إنهم مرة حماة للعرش و الدولة و أخرى أكثر تواضعاً أنهم شركاء للدولة. و انتهى بهم الأمر إلى أن يوجه فضيلة المراقب العام الأستاذ الدكتور همام سعيد أدام الله عليه صحته دعوة رمضانية سبق في ذلك دعوة جلالة الملك في هذه المناسبة التي تخص آل البيت في ظني أكثر مما تخص تنظيم الأخوان المسلمين. و لقد كانت تلك الدعوة قبل سنتين غريبة في شكلها وتوقيتها و مضمونها.
كانت في قلب الربيع العربي و ظهر فضيلة المراقب العام على باب سرادق ضخم مبيّض الوجنتين و تكحلت عيناه بكحلة تليق بالمناسبة، كان المراقب العام في تلك الدعوة نضراً، أكثر شباباً و أكثر ثقة و كانت طاولته غريبة حيث اجتمع إليه السفير الأمريكي (و هو لا يصوم) و حرص مكتب الإرشاد على أن تكون وجوه الأردنيين الحاضرة تشمل كل ألوان الطيف ، يومها كنت في البحرين حين جاءتني الوجوه عبر شاشة التلفزيون و لم أفهم إلا ما أراد فضيلة المراقب العام أن يفهمنا إياه نحن الأردنيون.
كان هناك مسيحيون و شيوعيون و رجال دولة و نساء و موالون و معارضون، كان كرنفالاً وطنياً قيل في حينه أن حاضروه قد تجاوزوا الألف أو يزيد.
كان الأخوان قد وصلو إلى ذروة قدرتهم على الاشتمام/ فحماس انتصرت و النظام السوري يترنح و الرئيس مرسي امتلك ناصية المحروسة و لم يبق سوى بعض بعضٍ ليضاف إلى فضيلة المراقب العام لقباً آخر في الطريق و قد يكون هذا اللقب هدية أمريكية بحتة و ليس في ذلك ما يضير.
قبل أن أنتهي لأعود من جديد إلى الأخوان المسلمين مرة أخرى، لا بد أن أؤكد على أنني ضد أي صدام معهم و أي إقصاءٍ لهم و أعارض أبداً اعتبارهم مهما أخطأوا تنظيماً مناوئاً حد العداء و إن بدوا كذلك أحياناً، و إن كنت أتشبث بترديد (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)؛ أي أن دولة قوية قادرة على أن تردع الأخوان و تضعهم في موقع جديرون به.
أعود من جديد إلى أم معاذ (نخوتنا) و محاولتها الإنابة عنا جميعاً لإيجاد شرعية أو تبريرٍ للرد على الدواعش، أعود فأقول إن قدرة معاذ على توحيد الأردنيين إن أُستثمر كمفهوم فإن فتاوى عديدة يمكن اشتقاقها من الفعل و إن برامج كثيرة يمكن اشتقاقها من أيقونة معاذ الموحدة لكن ذلك يحتاج منا جميعاً إلى جهد و إلى أن نترقي لمستوى النور الذي شعشعت روح معاذ بها علينا لنرد نارهم أو نار غيرهم إلى نحورهم.
لقد تمكن الأردن باشتقاق صيغ حماية لكيانه حين استفاد و استثمر ووظف ما لاح له كفرصة تاريخية لوحدة أبناءه خلف مواجهة مليكهم لسرطان الجسد في 1992، و اليوم فإن فرصة لا تقل خطورة وأهمية قد نثرها دم معاذ وصية و حصانة ليمكن الأردنيين من الاصطفاف من خلف عبدالله الملك لمواجهة سرطان يختلف عن الأول لأن هدفه النيل من الوطن و الأمة.
أعود لأقول إن الأردنيين عام 1992 بقيادتهم الملهمة و كوادرهم القيادية في دولتهم حينذاك قد احتشدوا من خلف الفرصة التي وحدتهم و هي عودة مليكهم سالماً ليعبروا الصعب و يتخطوه في أخطر ثلاث محن مرت على كيانهم في تسعينيات القرن الماضي، الأولى معاهدة السلام مع إسرائيل و الثانية تأصيل و تعميق الديمقراطية البرلمانية الشابة و الثالثة وفاة الحسين رحمه الله في أخر التسعينيات.
و إن الاحتشاد الجديد للأردنيين قد يفضي بهم إن أحسنوا فهمه و أدركوا معاني قوته و استلهموا روحه أن يحققوا قضايا ثلاث أيضاً؛ الأولى حماية الأردن بتوسعه القائم على أن الأردنية رسالة أمة و ليست لحظة جغرافيا من غير موارد.
والثانية إطلاق روح الأمة دينياً من جديد - أعني أن تتصدى عمّان للفتوى و ليس لبعث الرسائل التطمينية و حسب. الفتوى هي سر الهاشمية اليوم بعد أن حقق عبدالله الملك أفقاً في الخارج لها في النطاقين العربي و الدولي أكثر مما حققنا دعاة و إصلاحيين و مفكرين و ساسة لها في الداخل، أقصد الفتوى.
والثالثة أن الأردن اليوم يستطيع بعد معاذ و بروح معاذ كأيقونة أن يلتقط اللحظة التاريخية التي جعلته في مقدمة المتصدين للفكر المتحجر وبدعم دولي لم تحظ به دولة من قبل.
إنني أدعو اليوم إلى أن تقوم عمّان بلملمة شعثها الفكري بعيداً عن الرطانة الإصلاحية غير المجدية و أن نسعى إلى إيجاد صيغة جديدة تجمع الاستقرار إلى التحول الديمقراطي و تعمل على إيجاد رواقٍ جامع يعمل على تأصيل الفتوى من منظور أردني عربي إسلامي لكن سقفه هاشمي، و من هنا فإنني أبدأ بهذه النقطة بِحَث الجميع على قراءة كتاب صدر عام 2011 للدكتور روبرت رايلي بعنوان إغلاق عقل المسلم، حيث يصف (عقل المسلم واحدة من أعظم الدراما في التاريخ البشري).
إن هذا الكتاب ينطوي مثل غيره على مفهوم غربي أمريكي لمعنى العقل المسلم، و مع إني أرفض وجود عقل مسلم و أميل إلى استخدام عقلية إسلامية ذلك أن العقلية الإسلامية أرحب وأكثر مرونة من فكرة العقل و إنه لمن نوافل القول أن حركة الإصلاح الديني أو ما أحب أن أقتبسه من جديد (إعادة إحياء علوم الدين) قد أصبح فريضة على كل من يتعاطى بالفكر والتفكير.
ثمة ملاحظات عامة لا بد من زجها كمقدمة قبل الوصول إلى فكرة إعادة إحياء علوم الدين، و هي فكرة ثورية لذا قلت إنني أتحمل تبعاتها وحدي.
ما لم نحقق و نترجم ما رفعه الحسين من شعار (أن نتقدم بالإسلام لا أن نرجع إليه)، فإننا سنظل نمضي إلى حلقة مفرغة من أي مضمون. كذلك ما لم نعترف صراحة أننا نختلف فكرياً مع بعض السلف الصالح في إغلاق باب الاجتهاد و أن نظل قانعين قابلين بما قاله الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة 1058 م-1111 م (إن ما قاله السلف يجيب على كل أسئلة الخلف.) فإن داعش ستظل على أبوابنا.
إن هذه المقولة المتطرفة هي أول محنة التفكير الديني المتزمت و هي تعني تماماً ما عنته عبارة فوكوياما (نهاية التاريخ)، كما أن حرق كتب ابن رشد في قرطبة و على رأسها كتابه تهافت التهافت 1126-1198م قد أغلق معنى الفتوى إغلاقاً جائراً، و لا بد من النظر بروح جريئة في الخصومة التي اندلعت بين عقل ابن رشد و عقل الغزالي.
كذلك فإن تتميم التكميم الذي اصطنعه ابن تيمية لفكر الغزالي 1263-1328م قد جعل من الفتوى و الاجتهاد أملاً بعيد المنال و قد مهد بصورة محزنة إلى سقوط بغداد 1258م بركلة ترجيحية غير متوقعة من قدم هولاكو لأن فكر الأمة كان قد هوى قبل ركلة هولاكو. هل يجوز طرح سؤال بريء هنا: ما الفرق بين ركلة داعش حين هوت الموصل و بين ركلة هولاكو حين هوت بغداد؟
و لعلي أضيف أيضاً أن افتعال صراع المذاهب بين أتباع المذاهب الخمسة الأولى أو السبعة في نهاية الاعتراف بالجميع، إن هذا الإفتعال هو عبارة عن قطاع مصالح لبعض قادة المذاهب و ليس من أصل المذاهب.
إنني أتجرأ في الزعم و الإدعاء أن التلاقي و التداخل بين موسى الكاظم و أحمد بن حنبل و أبو حنيفة النعمان و مالك بن أنس و الشافعي كان تداخلاً رحباً حنوناً فكرياً و إنسانيا ً وكانت الاختلافات بينهم إبداعية أكثر منها نزاعية بنى عليها الأتباع وهم معارك نظرية تحوّل حبرها فيما بعد إلى دماء وورقها صار جثثاً للأتباع.
النقطة الأخيرة في هذه النوافل، هو أن مشروع الدولة الكافرة و الخروج عن الإمام و نقض البيعة كلها قد جاءت بها السياسة و لم يحتمها الفقه و لا الفكر.
إن ابن تيمية مثلاً الذي ذهب إلى جواز أن يكون (الخليفة ليس بالضرورة من قريش) قد حتمت عليه ظروفه ذلك، و لذلك فإن من نعتوه من المتصوفة في عصره بأنه خارجي قد أخطأوا.
إن معنى الخروج الآثم عن دولة الأمة و انتزاع حق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كحق لدولة الأمة و وضعه في أيدي الدعاة، كان ذاك أول التمهيد لداعش. فأبو الأعلى المودودي قد بدأ و بصورة عمودية التبشير بهذا المراد و سرعان ما تلقفه حسن البنا ثم استتب الأمر لسيد قطب في أمر الحاكمية والجاهلية ودار الإسلام وصولاً إلى كل ما رأيناه اليوم و غداً من دمويةٍ أحالت النص إلى سيف وأغلقت الاجتهاد بالإكراه و كفّرت الآخر حكماً، لذا فإن أول إحياء علوم الدين أن نقر بما يلي،
أولاً: أن الأزهر الشريف قد ابتدأ فكره بالتبشير للمذهب الشيعي الفاطمي ثم تحول إلى منبر لأهل الجماعة و ليس هناك من غضاضة كيف لهذه المرونة في روح الأمة و فكرها نحصرها اليوم في عدم قدرتنا على الرد على مبايعة أبي بكر البغدادي خليفةً.
إنني من دعاة أن يعاد النظر أولاً في مرونة الانفتاح بين المذاهب و عليها كلها بمحور ارتكاز واحد هو دولة الأمة، ودولة الأمة تعني ليس نيابة عن الأمة وإنما كل دولة تتمثل روح الأمة و قيمها.
ثانياً: بالإعتذار و الاحترام فإنني ضد أن تكون عمّان تابعة أو تقبل تبعية لفكر الأزهر أو فكر القيروان أو فكر النجف أو التفكير الوهابي، أنا من المؤمنين أن يكون التكامل حاجة و ضرورة و أن يكون النأي عن التناقض فكرة و رسالة لكني أصرح بمنتهى الجرأة و المسؤولية و أقول أنه قد آن الآوان أن نبلور فتوى أو داراً للفتوى أو رواق للإفتاء هاشمياً كله، عربياً هدفه، إسلامياً ملجأه و إنسانياً عالمياً منتهاه.
إن الأردن بعد أيقونة معاذ قد أتيح له لأول مرة و منذ عشرات السنين التفكير بصوت عالٍ على النحو التالي: إن الأقصى و هو ثالث حرم تشد له الرحال لم يزل منارةً دينية رمزية تتفيأ الرعاية الهاشمية و قد بدا واضحاً في محنة معاذ أن الفلسطينيين غربي النهر قد عبروا و لأول مرة عن قبولهم ومثابرتهم ومباركتهم للتفويض الهاشمي على الحرم القدسي.
كما أن كنيسة القيامة كمعنى روحي لا لبس في رمزيته تقع هي الأخرى في نطاق ما نرنو إليه من هدف.
فالمواجهة اليوم أضحت نحن في قلبها و في خط الدفاع الأول دفاعاً عن الإسلام الصحيح و لم يتبق من كيانات بلاد الشام كلها ما يحق له الإدعاء بالأمل أنه قادر على لم شعث أهل الشام و بعض العراق إلا الدولة الهاشمية في الأردن و ذلك ليس جديداً و ليس غريباً. إن العودة بسرعة إلى كتاب خيرية قاسمية مثلاً (الحكومة العربية في دمشق) هذا الكتاب الذي يؤرخ لكفاح و مثابرة الهاشميين و عرب الشام معهم مطلع هذا القرن يشكل أكثر من ضرورة في هذه المرحلة لإيجاد مسوغ عقلي لما نحن فيه يستدل و يستأنس بتلك التجربة التاريخية من جديد.
ثالثاً: إن الجيش العربي المصطفوي الذي يستهل فجره كل يوم قبل أن يتنفس صبحه بالنشيد (دعوة الحق إلينا، نفحة هبت علينا) يحتاج من المفكرين و العلماء الأردنيين إلى التماهي بمعنى هذا النشيد.
و إن المعركة التي اندلعت على هيئة نار تخطف الأبصار و نور يسعى لتبديد الظلام بيننا و بينهم لا يمكن كسبها بالبندقية فقط و لا بالطائرة أو الإنزال البري، بل يتقدم كل ذلك فتوى و دعاء و جرأة في الإبداع للتعاطي مع النص المقدس بأدوات مقدسة بعيدة عن الخوف و الوجل و بعيدة عن الجبن و الخور لأن اللحظة المسماة لحظة معاذ هي لحظة لها ما قبلها و سيكون لها ما بعدها.
رابعاً: إن الأخوان المسلمين على معنى الحصر و مشايخهم الأفاضل النبلاء مطالبون اليوم في الأردن أن يحسموا أمرهم فقهياً و شرعياً قبل أن يتحدثوا بالسياسة ويخوضون غمارها، أن يجيبوا على الأسئلة التالية:
أ- ما الذي يريدونه، هل يعتبرون (شعارهم الإسلام هو الحل) نهائياً؟ أو هل هم مستعدون لأن يسقطوا ال التعريف من الحل؟
ب- هل هم فقهياً و تنظيمياً هل هم أخوان مسلمون، أم أنهم أخوان لنا نحن المسلمين؟ أي أن هل لهم دينهم و للأردنيين دين آخر؟
ج- إلى متى سيبقى اللبس و الحيرة تقلقهم في أنهم جزء من تنظيم عالمي أم أنهم على استعداد على أن يكونوا حزباً أردنياً يصلون معنا إلى العالمية بإنسانية طرحهم.
د- بكل الاحترام لقيادة الأخوان المسلمون، أوليس من الواجب عليكم أن تجيبوننا اليوم أن كيف لتنظيم لم يرشق بوردة و أصعب شيء واجهه في عشر سنين مضت توقيف أحد قادته في سجن يتمكن مئات من محبيه و مريديه زيارته في كل وقت يشاؤون و يتمتعون بكل ما يريح، كيف لهذه القيادة لم تنتج كتاباً واحداً،مؤلفاً واحداً، فكرة جديدة واحدة غير ما يحكيه دعاة الإصلاح الأمريكي في قضايا الفقر و البطالة و حقوق الطفل و حرية المرأة و المساواة وتغيير قانون الانتخاب!!
كيف لقيادة الأخوان أن تبرر لنا حماسهم اللافت للنظر ووقوفهم البطولي حين كانت تدك غزة بوضوح لا لبس فيه في وقت كانت الحركة كلها في محنة معاذ و مأساة الأردنيين قد بدت لي على الأقل متلعثمة و تعمل وفق (وذلك أضعف الإيمان).
لا أتحدث هنا بملامة سياسية أو مناكفة بل أنني أضع كل هذا في باب الاحترام الكامل للحركة الإسلامية وبالتالي مطالبتها بأن تقبل ما أقوله في نطاق الولاء للأردن و الحب لهم لأنهم ركن أساسي فيه.
كيف لسيد قطب أن ينتج تحت سياط المخابرات المصرية ما أنتجه من ظلال تحت القرآن و من دعوة للجهاد لإسقاط الدولة الكافرة و التمهيد لصناعة جيل قرآني بطريقته الخاصة بفهم القرآن، أثمر هذا الجيل عن عبدالله عزام و ما زال هذا الباب مفتوحاً.
كيف لرجل من صميم الحركة الإسلامية، هو عبدالله عزام، ذهب لسنة أو سنتين لإخراج السوفييت الكفرة من أفغانستان و استبدالهم بأمريكا العادلة، كيف له يرحمه الله في غضون هاتين السنتين رغم انشغاله بقضايا حشد المجاهدين و إعداد الأسلحة أن لا ينسى واجبه و يضع كتابه الأشهر (آيات الرحمن في جهاد الأفغان).
في الوقت ذاته ذهب الدعاة في الحركة الإسلامية إلى حضور دورات في كيفية عقد المؤتمرات الصحفية و كيف يخرج الداعية مبتسماً وأن تكون الابتسامة مرسومة على مقدار لحيته الجليلة و يقطعها فجأة كي تؤثر في الحضور، هل هذا من الدعوة فيما نحتاج إليه؟
أخيراً: نحن نحتاج بصراحة تامة إلى منهج أردني إسلامي هاشمي متجدد ينهض على ما يلي،
أ- أن الملكية هي من الشرع وليست من الفقه و حسب لأن الله سبحانه وتعالى وصف (نفسه بمالك يوم الدين)، و (ملك الناس) و إن الهاشمية كرامة للأمة قبل أن تكون حكماً و الحكم لا يحتمل التحكم و حسب و إن عبدالله هو عميد للعترة النبوية.
و الملكية الهاشمية في الأردن هي الوارثة لفكرة دولة الأمة و ليس دولة السلالة من دون الدخول في التفاصيل، فإن قادتنا هم أسباط الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً الذي كان مع وحدة الأمة قبل أن تشغله المناصب.
ب- إن المملكة الأردنية الهاشمية هي دولة للأمة و من حقها على الأمة أن تجد وسيلة لإيواء قرابة المليون و نصف المليون لاجئ سوري على أرضهم و حماية منا. كذلك فإن العراقيين يحق لهم أن ينعموا بما نعم به الأردنيون في وطنهم و أن يكون ملاذهم في العراق. إن هذه الدعوة هي دعوة فكرية في الأصل و لذلك فإن فرقاً بين التوسع و الإتساع، فإن القلب الأردني يتسع و قد اتسع لكل من هو عربي ومن الجائز أن نفكر بتوسعة المدى الجغرافي ليس توسعاً و إنما إيواءً لمن فاؤوا إلينا.
ج- إن كل التصورات المنوطة بخطبة الجمعة و دور المسجد و المناهج و الندوات لا بد لها من إعادة نظر بمعنى التأصيل و ليس بمعنى النقد و التبديل، نريد خطبة جمعة لمحافظ المنطقة و لرئيس البلدية ولمدير الشرطة لأن سرقة خطبة الجمعة قد تمت في زمن صعب و لا بد أن تعود للجمعة في خطبتها الدلالات الحيوية الفقهية التي تجعل من الجمعة (مؤتمراً أسبوعياً) لأهل الحي و المنطقة للتصدي لكل مشكلات اليوم و الراهن من الحياة، كما قال الصادق النيهوم.
د- إن الحركات الإسلامية من سلفية و جهادية وإخوانية عليها أن تعي اللحظة، هل ستكون رافداً من روافد دولة الأمة أم أنها ستبقى تراهن لمائة سنة قادمة بعد أن خسرتنا و خسرت المائة سنة الماضية.
هـ- من الحكمة القول أن نخبة فكرية أردنية متباعدة التواصل، متجافية المودة، متقاطعة في الأهداف أكثر مما هي متفقة عليها موجودة في نطاق الدولة و خارجها؛ تحتاج إلى خيط سبحة يلظمها و ينظم أداءها و يدعم اجتراحها لأفكار جديدة و إيجاد مؤسسة تأويها كأن تكون رواقاً هاشمياً للفتوى تلتقي في جنباته كل قوى الخير المحبة للتقدم نحو الإسلام. إن الفتوى في التاريخ قد نشأت في البلاط الهاشمي من مجادلة عائشة و فاطمة وأم سلمى رضوان الله عليهن للنبي صلى الله عليه و سلم و خلافات خالد و عمر و توافقات أبو بكر و الفاروق و علي؛ و هذا ما منح للفتوى أبهتها و شرعيتها.
إن الأردني إن بنى على زخم أيقونة معاذ حالة فكرية جديدة خلاقة فإن الأردن على مدخل بوابة لعصر جديد.
و إن تمت تصفية حالة النهوض التاريخي لأيقونة معاذ ببطئ و بهدوء و أن نظل نهتف في الشوارع مطالبين جيشنا بالثأر و كأن جيشنا دولة شقيقة لا نفعل ما نسنده و لا نأتي بما يخفف عن أجهزتنا الأمنية ما أرهقها بأكثر مما يحتمله بشر، و تلك في حد ذاتها مؤامرة.
لو يتم الرجوع إلى بعض وراء لنتذكر أن الجيوش هي المستهدفة فمصر صنعوا لها ولاية سيناء، و العراق بخروا جيشه في أول لحظة إحتلال و سوريا كما نرى .. اللهم لا شماتة.
و لم يبق في دول الطرق، لأننا الآن نحن بين نارين، نار دول الطوق ونار دول الطرق؛ و داعش دولة تطرق أبواب كل الدول المحيطة. و أنا ميال في هذا المجال أن يظل اسمها كما ورّد في دفتر عائلتها (داعش) و هو اسم موصوم بلا معنى و كأنه صنم، فلمّ نجهد أنفسنا، مع كل احترامي لفكرة الأزهر الشريف إطلاق تسمية الخوارج على هذا التنظيم؟ فالخوارج لا فكرة و لا هدفاً و لا فقهاً يلتقون مع أصنام المرتدين الجدد، داعش.
كما أن إطلاق لفظ الخوارج على داعش يشكل حساسية لمن يستوعبون الفكر الهاشمي و يؤمنون به، فالخوارج أول من قتل خليفة هاشمياً فلماذا نحمل هذا الوسواس الخناس في لا شعورنا؟
إن الدولة قد أطلقت على شارع الجاردنز اسم شارع وصفي التل و صار ذلك اسماً رسمياً له، لكن الاسم الذي طغى هو اسمه الأول منسوباً لمطعم، أقصد أن الاسم الذي طغى لن نحتاج إلى تبديله لأنه لن يتغير في اعتقادي.
هل قلت كل ما يجب قوله؟ هذه مفاتيح حوار أكثر مما هي أفكار جاهزة. ليست لدي جرأة التطاول على الحقيقة كما يفعل بعض دعاة الإصلاح عندنا الذين حين يستلمون موقعاً يبيعون كل مفاهيمهم في الإصلاح و حين يؤوبون من استراحتهم الممولة فإنهم يقترحون أناجيل و كتباً مقدسة يصوغونها هم و يعتبرون أنفسهم هم أنبياء المرحلة و الكل يعرفهم أنهم لا أنبياء و لا ما يحزنون.
معاذ احترق جسده يرحمه الله لكنه حقق ما لم تستطع أي قوة أردنية أن تحققه للأردنيين فإما أن نحرق من حرق معاذ بنورنا و ببرامج جديدة خلاقة غير مسبوقة و إما أن نبدد اللحظة و ننتظر أي حل.
و للحديث بقية.