الخوف والخجل والوهم
ما الذي غيرته تفجيرات بروكسل الأسبوع الماضي، إلا المزيد من العتمة التي تحيط بهذا الجزء من العالم، والمزيد من الظلامية والخوف اللذين يهزان أركان الدنيا من حولنا، بعدما أصبحنا قراصنة وقطاع طرق في الأرض والسماء والبحر؟ لم تعد الأفكار الباهتة التي تعودنا تكرارها تقنع العالم. ولم تعد حتى تقنعنا نحن تلك الأفكار التي تقول إن "هؤلاء لا يمثلوننا، وهذا الدين منهم براء"، فيما يصدعنا خبراء الإسلام السياسي بتحليلاتهم التي لا تفعل شيئا أكثر من إضفاء المزيد من القوة على هذه الجماعات والتطبيع معها.
نحن بحاجة إلى جملة من الاعترافات، وإن كانت بدهية ومعروفة. لكن التطبيع معها والاعتراف بها يبدوان اليوم أقرب ما يكون إلى الصدمة. وأهم هذه الاعترافات أن الإرهاب والتطرف اللذين يلصقان بالمسلمين، أصبحا الشغل الشاغل للعالم، وهما مصدر التهديد الأول للحضارة الإنسانية التي ساهم فيها المسلمون وضحوا من أجلها. والاعتراف الثاني، هو أن هذه الجماعات المتطرفة -سواء كانت أصيلة، أي خرجت من تربة مهيئة لنموها، أو تم تصنيعها في الخارج أو الداخل- تنمو اليوم بشكل جنوني ومتوحش. وتحت سطوة التخويف والذعر والترويع الذي تنشره، تستسلم لها المجتمعات، بل وتطبع مع وجودها أحيانا. والاعتراف الثالث أن الحرب الحقيقية التي تحاصر هذه الجماعات، ويمكن أن تقتلعها من جذورها، لن تكون ذات جدوى إلا إذا كانت حربا عربية. فيما الاعتراف الرابع أن هذه الحرب ليست عسكرية وحسب، بل هي أيضا حرب من أجل الإصلاح ومن أجل الهدم وإعادة البناء؛ فهذا الكابوس المظلم يحتاج جرأة في الاعتراف به وفي المواجهة، ويجب أن تصل هذه الجرأة إلى الناس قبل أن يصلهم الذبح والترويع.
إن فكرة إطالة أمد الحرب العسكرية على الإرهاب تعد أخطر فكرة تخدم نموذج الدولة الافتراضية، وتجعل هذه الحرب أخطر من الإرهاب الذي أسس لها؛ لأن الحرب الطويلة الموعودة هي مفرخة حقيقية للإرهابيين. فالمزيد من القتل والدمار والفقدان، سوف يراكم تحولات اجتماعية خطيرة، تخلق مجتمعات أكثر نزوعا لإنتاج المزيد من المتطرفين، ومجتمعات تستنزف وتصبح أكثر قدرة على إنتاج الباحثين عن مصير آخر، من خلال وهم السيطرة على المصير بالقوة والعنف.
في مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، تصاب الجماعات باختلالات تجعل الأوهام والخرافة جزأ أساسيا من نظام إنتاج السعادة والتوازن العاطفي؛ فلطالما كانت الأوهام هي سر السعادة، وكل من يحاول التشكيك في هذه الأوهام أو كشف زيفها، سوف يعاقب ويقاتل. كان المفكر الإنجليزي فرانسيس بيكون يرى أن المجتمعات تقع في مراحل تطورها في سلسلة من الأوهام؛ أهمها "أوهام الكهف"، تلك التي تجعل الفرد ينظر إلى العالم من كهفه الخاص أو زاويته الخاصّة التي شكلتها تنشئته الاجتماعية وتربيته وثقافته. ثم "أوهام المسرح"، أي الأخطاء المعرفية؛ من معتقدات راسخة ومبادئ مغلوطة، شكلت مع الزمن قناعات راسخة أقامت الجماعة عليها البراهين، ما جعلها غرسا اجتماعيا يصعب اقتلاعه، ولها سلطة وقوة رغم أنها محض وهم اجتماعي. وهذا النوع من الأوهام يميل إلى الاستعراض والاشتباك.
نحن نخاف مما يحدث وينسب إلى الإسلام، أكثر مما يخاف الغرب منه. نخاف من هذه الأجيال الجديدة التي تغذي المذبحة بأجسادها؛ نخاف من فضاء الأوهام الذي يلفنا؛ نخاف من هذه الحرب التي لا تريد أن يموت العدو ولا تفرخ إلا المزيد من الإرهابيين.
في أغنية شعبية مصرية قديمة من كلمات سيد درويش، وتمت إعادة توزيعها مرات، يردد المغني أنه قضى العمر يخاف على بلده. لكن البلد الذي نام أبناؤه ليلة واستيقظوا ولم يجدوه؛ أصبح الخوف منه وليس عليه.