بين الاحتفالية والعبودية المتجددة!
يقوم محمود بتحميل الحجارة على ظهره، لنقلها من المقالع والكسارات في صحراء معان جنوبا، إلى شاحنات النقل الكبيرة. وهو يضع قطعة جلدية فقط -لا تفعل الكثير- لحماية جسده من ثقل هذه الأحجار، في حين يرتفع الوزن فوق ظهره لأكثر من خمسين كيلوغراما في كل مرة. وهو يتقاضى بعد كل هذا العناء، ومن معه من عمال آخرين، نحو 35 دينارا جراء تحميل "قلاب" بسعة 130 مترا. ويتوزع هذا المبلغ المتواضع على خمسة، ليكون نصيب الواحد منهم سبعة دنانير!
لك أن تتخيل منسوب المعاناة تحت شمس حارقة، وحجم الخطر الصحي وسط تصاعد الأتربة وتطاير الغبار، علاوة على التهديد المباشر لظهور هؤلاء الرجال التي انحنت وأصابها ما أصابها من أمراض العظام والعمود الفقري بفعل بيئة العمل الظالمة، والتي تذكرنا بظلم ساد في عصور خلت، عندما كان العمال ينقلون على ظهورهم الحجارة الكبيرة لبناء مشهدية حضارية زائفة لأنها لم تحترم الإنسان، وتعاملت معه بشكل أقرب إلى العبودية منه إلى الإنسانية.
مشهد مؤلم ليس من التاريخ الغابر، بل يحدث اليوم بعد الألفية الجديدة وعلى مقربة منا. ويبقى السؤال: هل تجمدت التكنولوجيا ووسائلها لتبقى ظهور العمال جسرا لنقل الحجارة الثقيلة بعد كل هذه القرون من التطور والحداثة؟ يضاف إلى ذلك أن أكثر من 180 ألف عامل وعاملة احتجوا العام الماضي رفضا للظلم الواقع عليهم.
ومع السجل غير الأبيض في تعامل الحكومة مع حقوق العمال والتفاعل مع احتجاجاتهم المحقة في مجملها، لجأت الحكومة، وعلى نحو واضح، إلى الانحياز لأصحاب العمل على حساب حقوق العاملين، وهو ما يسهم في خلق بيئة عمل يسودها غياب الحقوق وعدم الثقة بين شركاء العمل الثلاثة؛ عمالا وأصحاب عمل وحكومة.
الظلم الأكبر الذي يقع على العمال في بلادنا يكمن في انخفاض مستوى الأجور الشهرية؛ فرواتب ثلثي العاملين بأجر تقل عن 400 دينار شهريا. ولنا تخيل حجم الفاقة التي يعيشها هؤلاء. فاربعمائة دينار بالكاد تكفي لأسبوعين من الشهر، ويحاول رب الأسرة، والحالة هذه، أن يعمل في مجالات أخرى في المساء كي يعوض النقص الحاصل في بيته بسبب تدني أجره ، ولينخرط من جديد في دوامة الحقوق الغائبة ومواصفات العمل التي يرضى بأقل القليل فيها من أجل أن يقي عائلته شر البرد والجوع. وفي مقابل هذا الألم الذي يضم السواد الأعظم من عمالنا، أطلت علينا الحكومة في عيد العمال بأنها تدرس قرار رفع الحد الأدنى للأجور!
في عيد العمال، لا يحتاج العمال إلى كلام حكومي منمق. إنهم يتطلعون إلى العيش بكرامة، وأن تكون حقوقهم محط اهتمام القانون وتطبيقاته، وقبل ذلك أن تكون حقوقهم ضمن سلم أولويات المجتمع والدولة، لا أن تتجدد عليهم ملامح العبودية بأشكالها البائسة قديما وحديثا.