بعد مئة عام
لم يدر في خلد الدبلوماسيين البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، أن التفاهمات السرية التي أبرمت بينهما، بعد أن وضعا خريطة الشرق الأوسط على الطاولة، ستصمد لأكثر من مئة عام. وهي التفاهمات التي صادقت عليها روسيا، وتم بموجبها اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين بريطانيا وفرنسا، لتحديد مناطق النفوذ الاستعماري في غرب آسيا بعد سقوط الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى.
نعم، لقد بقيت الحدود التي رسمها هذان الرجلان لأكثر من قرن. بل إن الدول التي نشأت بعد ذلك، تعاملت مع الحدود على نحو محسوم، بوصفها قدرا أو أمرا مقدسا لا يمكن المساس به أو تغييره، رغم أن اليد التي رسمت هذه الحدود استعمارية، كان هدفها الأساس أن لا تتشكل دولة عربية قوية بالمعنيين السياسي والاقتصادي في ذاك الزمان، وأن تبقى التجزئة أمرا واضحا بين سكان هذه المنطقة التي سميت يوما سورية الطبيعية.
لم تتمكن دول المنطقة خلال قرن كامل من الوصول إلى صيغ مقنعة أو عملية للتكامل الاقتصادي. وخط الشام الذي شهد تجارة محدودة في عقود خلت، لم يكن يعبر عن صورة اقتصادية مصلحية تضم شعوب المنطقة تحت مظلة واحدة بالمعنيين التجاري والصناعي. وبقيت العلاقات العربية في بلاد الشام كما هي في باقي الدول العربية الأخرى؛ ضعيفة هشة، ومستندة الى مواقف سياسية ارتجالية. لذلك، كانت التجارة البينية العربية أقل من 10 % من مجمل التجارة العربية، ولم يتسن طباعة عملة موحدة على غرار أمم وتكتلات جغرافية أخرى، ولم يتشكل لدينا جسم صناعي كبير أو اقتصاد مؤثر، وليس لنا وزن في أسواق آسيا أو أفريقيا، ناهيك عن أوروبا وأميركا.
التعامل المفرط مع "قداسة" حدود "سايكس-وبيكو" أنتج اقتصادات هزيلة ورعوية وتابعة. وظل إنسان منطقة بلاد الشام في ظروف صعبة على المستوى الاقتصادي. فالبطالة تملأ دول العرب منذ تأسست، ومثلها الفقر وسوء استغلال الثروة. ولو تسنى إقامة كيان سياسي واقتصادي كبير قبيل تفاهمات 1916 السرية التي أفرزت حدود اليوم، لكان بالإمكان الحديث -في اللحظة الراهنة- عن وزن عربي مؤثر في التجارة والاقتصاد، بدل حالة انعدام الوزن التي نعاني منها الآن.
هذه الحدود التي فرضها المستعمر، هي اليوم نقطة للقلق والموت واللجوء والكراهية والفشل الاقتصادي. وتشكل بمضمونها الحالي ملمحا للخسارة، يدفع ثمنه أهل الشام في بلاد الشام التي لم تعد كذلك بعد قرن من التقسيم والتجزئة. والمخاوف اليوم أن تتعزز هذه الصورة الاقتصادية السلبية بسبب شبح "سايكس-بيكو" أخرى تسعى إلى تقسيم المقسم، في ظل ظروف الحصار الاقتصادي الذي يلف حدود الدول في بلاد الشام كلها، وتفتيت المجتمعات والدول إلى كيانات أكثر صغرا وهشاشة.
يحلم العربي هنا باستغلال ثروته على نحو عادل، وبتعليم أبنائه، وبمعيشة تتحقق فيها شروط الكرامة. لكن الحالة الاقتصادية اليوم، بعد تطورات السنوات الخمس الأخيرة وبعد قرن على حدود المستعمر، تشير إلى أن هذا الحلم صعب التحقق، وربما صار مستحيلا.