المصالحة - أن تجربة سنوات الانقسام الطويلة تخفض من سقف الآمال
ليس هناك ما هو اصعب على امة ما او شعب ما من الانقسام و التشتت و اختلاف القلوب و تعارض السبل ، حينما تنقسم الامة تنشطر الاسرة و يتفرق الحي و ينقطع الرحم. الانشقاق هو اختلاف لا سقف يحده ، و لا قواعد تحكمه و لا معايير تردعه. انه خروج على العقد الاجتماعي ، و صيغة التعايش ، فهو يفتح الباب للغريب بل يزيل الابواب و الجدران الجامعة لاهل البيت و يتركهم مباحين للاخر ، غير مفصولين عن غيرهم و لا ملتحمين ببعضهم ، حيث تذوب اللحمة الجامعة. و الانقسام الفلسطيني هو صناعة غير فلسطينية ، مثل الكثير مما يخص فلسطين ، ففلسطين ترك امرها لعدوها و لرباعية الشر تتحكم بها ، و تفرض عليها عقدا ينتظم حركتها ، و يحد احلامها ، و يعنصر تطلعاتها نحو الحرية و الاستقلال ...
الاجتماع الوطني يحتاج الى رابط و عقد و طني و ميثاق وطني ، لا يلغي او يعدل او يهمل بسهولة. الاجتماع في الوطن و على الوطن يجب ان لا تفرضه القوة وحدها، بل هو بناء للوطن حول المشترك من المثل و القيم ،يستظل فيه الجميع ، و يكون الحكم فيه للمجموع و يحرسه الانسان الفلسطيني من البعيد و القريب.
حسب مصادر في الحركتين تستضيف الدوحة جولة جديدة من المباحثات ، فإن مباحثات الدوحة تهدف إلى تطبيق الاتفاقات السابقة ، وتشكيل حكومة وحدة وطنية ، تلتزم ببرنامج سياسي معين ، يعتمد في الأساس على وثيقة الوفاق الوطني ، التي تتحمل مسؤولياتها في الضفة وغزة ، وتعمل على التجهيز لانتخابات عامة , إضافة إلى العمل على عقد الإطار القيادي المؤقت ، والنظر في قانون انتخابات المجلس الوطني.
وتأتي الجولة الجديدة من المباحثات بين التنظيمين بعد نحو عامين من التوقيع على اتفاق الشاطئ ، حين اتفقت الحركتان على إنهاء الانقسام ، الذي بدأ في منتصف 2007 ، وأعلنتا عن بدء تشكيل حكومة التوافق الوطني خلال خمسة أسابيع ، واستئناف عمل لجنة المصالحة المجتمعية ولجانها الفرعية ، وتنفيذ ما اتفق عليه بشأن ملف الحريات العامة وتفعيل المجلس التشريعي وإجراء الانتخابات بعد ستة أشهر من تشكيل الحكومة.
لكن فتح وحماس أخفقتا في تطبيق التفاهمات باستثناء تشكيل حكومة التوافق الوطني ، التي لم تنفذ الدور المنوط بها حتى الآن . وما زالت معظم الملفات الرئيسة تراوح مكانها ، وتستمر المناكفات والاتهامات المتبادلة والاعتقالات السياسية .
ولا يشكل اتفاق الشاطئ استثناء ، فهو ككل الاتفاقات السابقة بين الحركتين يعتمد على مبدأ المحاصصة بينهما ، بينما تتجاهل بقية الفصائل الأخرى وتيارات شعبية واسعة ، إثر الخيبات الكبيرة ، التي خلفها الفشل في تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة في مراحل سابقة ، تعاقب فيها العمل الفدائي ، والتسوية السياسية والمفاوضات المتواصلة منذ قرابة ربع قرن ، من دون تحقيق أي نتائج مهمة للجانب الفلسطيني , وذلك مقابل تضاعف الاستيطان عدة مرات ، وتضييق الخناق على القدس وفصلها عن محيطها العربي.
وعلى الرغم من أن القضية الفلسطينية تمر في مرحلة صعبة جدا في ظل استغلال العدو الصهيوني للظروف الاقليمية بعد "الربيع العربي"، وانشغال العالم في الحرب على "داعش"، فإن فريقا واسعا من الفلسطينيين يشكك في إمكانية التوصل في الجولة الحالية إلى اتفاق تفصيلي بين فتح وحماس يفتح على حل نهائي للانقسام ، ويتمم المصالحة الغائبة منذ نحو عقد من الزمان. ولم تشكل الهبة الشعبية المتواصلة في الضفة والقدس حافزا للحركتين من أجل توحيد الجهود في المعركة من أجل الدفاع عن القدس وأهلها.
وفي ظل تضارب الرؤى السياسية لحركتي فتح وحماس ، يصعب التوصل إلى برنامج سياسي جامع. وفيما تخشى حماس من فقدان سيطرتها على غزة في حال التوصل إلى اتفاق نهائي ، فإن السلطة الفلسطينية تحسب حسابا للفيتو الصهيوني على أي تقارب مع حماس ، وتتوجس من إمكانية تجدد أشكال النضال المسلح في الضفة والقدس في حال حل المشكلات مع حماس ، وتخشى من تكرار تجربة الانتخابات السابقة ، وانسداد عملية التسوية ، وقناعة معظم الفلسطينيين بعدم وجود نية صهيونية في التوصل إلى سلام يضمن الانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، والقبول بـ"دولة فلسطينية قابلة للحياة "، وعاصمتها القدس الشرقية ، إضافة إلى عودة اللاجئين.
وفي جوانب مهمة أخرى ، فإن الحركتين لا تزالان عاجزتين عن حل بعض القضايا المهمة ، مثل إدارة المعابر مع قطاع غزة , وكذلك موضوع رواتب الموظفين والمنتسبين إلى الأجهزة الأمنية لحماس . وهي مشكلة معقدة قد تؤثر على شعبية حماس ، ويرى فريق من الخبراء أن الظروف الإقليمية ، وإن باتت أكثر ملاءمة لإنهاء الانقسام الفلسطيني وتحقيق المصالحة المنشودة ، فإن النتائج ربما لن تكون على قدر الآمال المعقودة. فالسلطة تدرك أن الملف الفلسطيني تراجع كثيرا مع انتشار خطر الإرهاب و"داعش"، وانشغال الإقليم والعالم بحروب في سوريا والعراق واليمن ، والتوترات بين إيران والسعودية. كما أن الهبة الفلسطينية والتصعيد النوعي الأخير في العمليات ، باستخدام الأسلحة النارية ، يقلق صناع القرار. وفي المقابل ، فإن حماس باتت أضعف مع تراجع "الإخوان المسلمين " من مولد "الربيع العربي من دون حمُّص ".
وتشدد مصرية بإغلاق الأنفاق ، ومواصلة إغلاق معبر رفح معظم أيام السنة ، وتراجع الدعم المادي والمعنوي لها من قبل إيران وبلدان الخليج على حد سواء لأسباب تتعلق بالاستقطاب الشديد وقضايا اقتصادية وإيديولوجية ..
كل ذلك تسبب في ارتفاع نسبة الفقر في القطاع إلى مستويات قياسية ، وارتفاع الغضب ضد سياسات حماس في القطاع المحاصر.
ومن الواضح ، أن تجربة سنوات الانقسام الطويلة تخفض من سقف الآمال الشعبية المعقودة على اتمام المصالحة الفلسطينية في محطة الدوحة الحالية بعد مئات الجولات من المفاوضات وتوقيع اتفاقات وتفاهمات .
ومن المؤكد أن استمرار حركتي فتح وحماس في صوغ اتفاقات تستند إلى عقلية الإقصاء ، وتغييب مبدأ الشراكة السياسية ، مع جميع مكونات الشعب الفلسطيني " الفصائلية " والمجتمعية ، لن يساهم في إنهاء الانقسام ، وربما سيساهم في زيادة حدته بما يعنيه من عدم القدرة على مواجهة المخططات الصهيوني لفرض حلول تناسبها باستغلال الضعف الفلسطيني ، والظروف الإقليمية والدولية.