الاستقرار النقدي
قبل نحو أربع سنوات تقريبا، ثارت حالة عدم يقين خطيرة، كان من الممكن أن تنجم عنها تبعات كارثية على الاقتصاد. ولّدت تلك الحالة تصريحات رئيس الوزراء آنذاك د. عبدالله النسور، إذ تحدث صراحة في حينه عن وضع الدينار. والجميع ما يزال يذكر تحذيره الشهير "إما رفع الأسعار أو تخفيض الدينار"؛ لتمرير تحرير أسعار المحروقات، وهو ما تم فعلا.
لكن جوهر القصة التي لم تعرف إلا قلة قليلة تفاصيلها، تمثل في كيفية تعامل البنك المركزي الأردني مع تبعات تلك التصريحات، ونجاحه في تجاوز احتمالية انعكاسها الخطير على العملة الوطنية المستقرة حكما، لأكثر من سبب.
آنذاك، بدأ يظهر سلوك مريب من بعض شركات الصرافة، سعت إلى استغلال الظرف المضطرب. ونتيجة ذلك، بدأت تتشكل حالة لم تنضج، تنبه لها مبكراً محافظ "المركزي" د. زياد فريز. فاتخذ سلسلة من الخطوات لحماية استقرار الدينار، نجح بها باقتدار واضح، نجني اليوم حصيلته.
إذ في تلك الفترة، تعامل "المركزي" بحزم شديد، وذكاء أيضا، لمحاصرة مكاتب وشركات الصرافة التي أرادت إساءة استغلال الجو العام السلبي الذي ساد في البلد. فقام البنك بضخ عملة أجنبية في السوق تغطي الطلب وأكثر؛ وتابع من خلال فرق التفتيش، الرقابة على محال الصرافة، مصححاً بعض المسلكيات الخاطئة وغير الوطنية من قبل بعضها؛ كما نسق مع بنوك في توفير المطلوب من الدولار، تأكيدا على توفره وعدم وجود نقص فيه. ووصل الأمر حد جلب كميات كبيرة من العملة الخضراء بطائرات خاصة.
ببساطة شديدة، لنا اليوم تخيل إلى أين كان يمكن أن نصل، لو لم تتوفر مثل هذه الإدارة في ظل تلك الأزمة.
إلى جانب سياسة البنك المركزي، ساهمت حالة الأمن والاستقرار التي يتمتع بها الأردن مقارنة بدول المنطقة، كما امتلاكه لخريطة إصلاح سياسية واضحة المعالم، في تكريس شعور التيقن باستقرار العملة الوطنية، وهو ما لم يتوفر لدول أخرى.
فاليوم، يتضح أن الشقيقة مصر، باقتصادها الكبير، لم تقدر على تجاوز الأزمة. وها هي عملتها الوطنية تصارع أزمة خانقة، مع انخفاض قيمة الجنيه إزاء الدولار بشكل حاد خلال الفترة القصيرة الماضية؛ إذ تباع العملة الأميركية فيالسوق الموازية بين 12.70 و12.75 جنيه، مقابل سعر صرف رسمي يبلغ حوالي 8.8 جنيه.
وأزمة الجنيه مستمرة رغم كل تدخلات البنك المركزي هناك، كما محاولات تضييق الخناق بشدة من قبل مباحث الأموال العامة المصرية، على شركات الصرافة.
وقد تكون ثمة حلول متعددة لهذا الوضع، لكنها تبدو متأخرة.
إذ تم، من دون نتيجة، إغلاق الكثير من محال الصرافة التي تتعامل بالسوق السوداء للعملة، حتى تقلص عددها بنحو 42 % في الأشهر القليلة الماضية. فما لا يساعد هو إيقاع الحالة السياسية العامة، وعدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل السياسي.
التطمينات السياسية جاءت من مختلف المستويات، بأن سعر العملة المصرية سيثبت. لكن قراءة المعطيات تؤكد أن الأوضاع لن تتحسن كثيرا، رغم الإعلان عن توقيع القاهرة اتفاقا جديدا مع صندوق النقد الدولي، سيفرض إصلاحات قاسية، وربما تضطر في النهاية إلى تعويم الجنيه، مقابل تقديم "الصندوق" مبلغ 12 مليار دولار على ثلاث سنوات مقبلة.
بالنتيجة، فإن الاقتصاد المصري لم ينجُ من المأزق الصعب، رغم كل المليارات التي ضخت فيه منذ العام 2013. ما يعني أن تحقيق منجز أو حمايته، لا يعتمد بالضرورة على الدعم الخارجي، بل يظل مرتبطا أساساً بمعطيات داخلية لها علاقة بالحاكمية الرشيدة والشفافية وسواهما.
وتبعات وانعكاسات تدهور قيمة الجنيه بدأت تظهر على حياة المصريين ومزاجهم؛ لأن العملة جزئية حساسة ومهمة. وهذا ما أدركه الأردن مبكرا، فاعتبر استقرار الدينار ركنا في الاستقرار الوطني ككل، وفعل كل ما هو ممكن لحمايتهما.
الاستقرار النقدي لا يقل أهمية عن الاستقرار المالي والاستقرار السياسي، هذا إن لم يفقهما، لاسيما في ظل مخاوف اجتماعية وقلق من الحاضر وعدم يقين بشأن المستقبل. ولذلك يبقى هذا الاستقرار (النقدي) عنصر أمان وطمأنينة، أقله للحفاظ على الوضع القائم.