صورة زيتية للثمانينيّات
هذه جداريّة بالألوان الزيتية على جدار فتى أخفق في الحبّ في العام الأخير من ثمانينيات العرب: محمود درويش على منصة الشّعر في الجزائر يقرأ قصيدة في المديح وظله في الرّسم عالياً. عبدالحليم حافظ يغنّي على المسرح الفرنسيّ، وعيناه مغمضتان، ويداه ضارعتان، ويرى ما بعد آذار السابعة والسبعين. أحمد زكي يؤدّي التحية العسكريّة كفتى ريفي “بريء”، وبشرته السمراء في الصورة الجماعيّة تنوبُ عن الوطن.
سيّدة مُتعَبَة في منتصف الأربعين، كان اسمها على بكرات السينما سعاد حسني، وهكذا كانت تُعرّفُ الأنوثة في السبعينيات. رسمَها الفتى ضاحكة، وفي ضحكتها لذّات، فتنهّد الجدارُ. مغنّية جادّة، بصوت سوبرانو، كانت ترقص كالأميرات في القصص الخرافيّة. ماجدة الرومي، التي رسمَها الفتى على الجدار، لأنّ الأحلام لا تمشي. فتاة تبدو كئيبة، على خطوط الدراما الرفيعة كان يبدو اسمها ناقصاً، كإجابة مبتورة في ضجر: سمر سامي. رسمَها الفتى لأنّه أخفق في الحب.
هذا لاعبٌ قصيرٌ، مائة وخمسة وستون سنتيمتراً فقط، لكنّه هُنا، على الجدار، يبدو أطول بالحيلة، فيقفز صاحب القميص الأزرق ويده وراء الكرة الطائرة، يقذفها في المرمى، هدفاً سياسياً مؤلماً للإنجليز. كتب الفتى: مارادونا، كان لاعباً في كلِّ حيٍّ عربي، وطوله أقل من مائة وخمسة وستين سنتيمتراً. وهذا فيصل الدخيل، بقميصه الأصفر، وخلقه الأبيض. كلُّ الكويت كانت تعرفه، والخليج أيضاً، وربمّا المحيط، فكتب الفتى: هذا أنا في الحيّ القديم.
يوم ربيعي معتدل على الصفحة الأولى من صحيفة القبس. رصاص يثقب جداريّة الخميني، وجهه، وعمامته، وقائمة اسمه، والعنوان كان بالأسود الثقيل: الفاو عراقية. وفي الصفحات الداخلية خلافات حدودية، ريبورتاج بالأحمر عن بيروت، مصر تعود إلى الجامعة العربية بمناسبة مرور عشرة أعوام على كامب ديفيد، أطفال شُعْثٌ، حفاة، يلاحقون جندياً إسرائيلياً بالحجارة في زقاق نابلسيّ، وفي رأس صفحة “فلسطين المحتلة” العنوان بالأحمر: خمسة شهداء.. وعشرات الجرحى، وفي العنوان الفرعيّ: “حتى النصر”.
هذا حيُّنا، أبنية قصيرة، وجارات كسولات، وحب إلزامي لابنة الجيران في الطابق الأرضيّ، ينتهي بزواج وإغلاق الشارع مساء الخميس السعيد. الشارع كان ترابيّاً، لكنّ البريد لم يكن يتأخّر، شهران فقط وعلِمَ الجيران الانطوائيون في رسالة بالأزرق الجافّ، أنّ أخاهم المغترب تزوّج من فتاة داغستانيّة. أرسلت الأمّ برقية عاجلة، لتستفسر إنْ كانت العروس محجّبة، فجاء الردُّ في الرسالة التالية بالإيجاب، بعد شهريّ اختبار من تفكك الاتحاد السوفيتي!
محمود درويش يضحكُ في صورة أخرى، وهذا صديقه الذي كان شاعراً على أيّ حال. عبد الحليم حافظ جالساً على كرسيّ في المستشفى اللندنيّ، يشاهد بالفنجان ما جرى بعد آذار السابعة والسبعين، وأحمد زكي ينظر من شبّاك بمستشفى دار الفؤاد، وعيناه على الجزء البعيد من الجدارية الزيتيّة، هناك سعاد حسني تحمل شهادة وفاة خالية من الأسباب. وهذا أنا، كنتُ فتى أخفَقَ في الحبِّ، فرسَمَهُ.