فكرة الإلغاء التلقائيّ للأحكام الجزائيّة ما بين أسس التّشريع والدستوريّة
استقر النّهج التشريعيّ الأردنيّ على التقيّد بأسباب سقوط الأحكام الجزائيّة وفقاً لمنطوق المادة (47) من قانون العقوبات رقم (16) لسنة 1960، وذلك باقتصار هذه الحالات بوفاة المحكوم عليه، والعفو الخاص أو العام، وصفح الفريق المُتضرّر، والتّقادم، وانتهاءً بوقف تنفيذ العقوبة.
دفعني إقرار مجلس الأمّة بشقيه: الأعيان والنّواب في جلسته التشريعيّة المنعقدة في 30 من شهر نيسان عام 2018، والمخصّصة لمناقشة المواد المُختلف عليها في مشروع قانون المسؤولية الطبيّة والصحيّة لسنة 2016 إعمالاً لنص المادة (92) من الدستور إلى التفكّر في مدى تقيّد المجلس التشريعيّ بالأسس الرّاسخة في مبادئ التّشريع الجزائيّ المتعلقة بأسباب سقوط الأحكام الجزائيّة، علاوةً على مدى تقيّد المشّرع بإحدى الركائز الرئيسة للنظام الدستوريّ الأردنيّ ممثلةً بمبدأ الفصل المرن بين السّلطات الدستوريّة، والذي يفرض الاستقلالية المُطلقة للسلطة القضائيّة.
حمل مشروع القانون المُشار إليه أعلاه في طياته نصّاً حاز على الإقرار التوافقيّ للمجلسين يبعث على الشّك والرّيبة في مدى التّقيد بأسس التشريع، بل ويُثير شبهةً دستوريّةً ولهذا ما يبرّره، حيث نصّت المادة (19) من مشروع القانون هذا على:(إذا تمّ الصّلح بعد صدور الحكم في الدعوى يوقف تنفيذ العقوبة).
باستعراض المبادئ القانونيّة ذات الصّلة أجد بأنّ الصّفح عن المجني عليه كسببٍ لإسقاط دعوى الحق العام أو إسقاط العقوبة المحكوم بها يتطلّب وفقاً للأسس المُستقرّة في التّشريع الجزائيّ بموجب المادة (52) من قانون العقوبات أن لا يكون الحكم القضائيّ قد اكتسب الدرجة القطعيّة، وقد بقي هذا الشّرط لزاماً على الرّغم من توسّع المشرّع الجزائيّ في تبني مبدأ العدالة التصالحيّة بموجب القانون المعدّل لقانون العقوبات رقم (27) لسنة 2017.
بينما وقف تنفيذ العقوبة فهو سلطة تقديريّة لمحكمة الموضوع وفقاً لمنطوق المادة (54 مكرّر) من قانون العقوبات الأردنيّ، ويجب أن يصدر في ثنايا الحُكم القضائيّ في حال توفّر الشّروط القانونيّة والتّسبيب أو التّعليل.
أمّا التّوجه التشريعيّ الطارئ فقد تضمّن فكرة الإلغاء التلقائيّ للأحكام الجزائيّة بموجب نصوص تشريعيّة على الرّغم من ارتباطه بمفهوم وقف تنفيذ العقوبة بمجرّد الإسم، وبالتّالي يشكّل خروجاً عن المبدأين التشريعيّين المُبينين، وذلك لامتداده إلى الأحكام القضائيّة كافةً سواءً أكان الحكم مكتسباً للدرجة القطعيّة أم غير ذلك ودون الحاجة لحكمٍ قضائيّ يُضفي الأثر القانونيّ للإسقاط أو الصّلح ويقرّر البت في النّزاع المعروض عليه من الناحية القانونيّة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فانطلاقاً من تلك المصادرة للصلاحية القضائيّة فإنّ هذا التّوجه التشريعيّ العرضيّ قد تضمّن اصطداماً بمبدأ استقلالية السّلطة القضائيّة صاحبة الاختصاص الأصيل في فصل المُنازعات الجزائيّة منها والمدنيّة المُستمد من المواد (27، 97، 100-102) من الدستور، وبالتّالي تشوبه شبهة دستوريّة.
تستدعي وتؤكّد مثل هذه التّوجهات التشريعيّة على ضرورة وأهمية منح المحكمة الدستوريّة صلاحية الرّقابة السّابقة على دستوريّة مشروعات القوانين (التّشريعات البرلمانيّة) على غرار الدساتير العربيّة المُقارنة كالدستورين التونسيّ والمغربيّ، نظراً للأهمية المتأتية من هذه الصّلاحية كضمانة لسلامة مخرجات العملية التشريعيّة من الناحية الدستوريّة على أقل تقدير.
*باحث قانونيّ، وطالب في المعهد العالي للدكتوراه في الحقوق والعلوم السياسيّة والإداريّة والإقتصاديّة/ الجامعة اللبنانيّة.