ظاهرة الدولة العميقة في العالم الثالث
ظهر في الآونة الأخيرة خاصة في دول العالم الثالث مصطلحات: الدولة العميقة، الدولة الموازية، دولة داخل دولة، دولة الظل، للدلالة على وجود جهات خفية تدير الدولة بشكل فعلي خدمة لمصالحها، ودون أن تتحمل مسؤولية الرقابة والمساءلة الشعبية، بينما تكون المؤسسات الحكومية التنفيذية والتشريعية شكلية ومهمتها تنحصر في شرعنة قرارات وفساد الدولة العميقة، وكل ذلك يؤدي الى ان تكون الدولة العميقة دولة داخل الدولة او دولة فوق القانون.
وتعرف الدولة العميقة بأنها: مجموعة التحالفات والشبكات التي لها اذرع متعددة والتي تمتد داخل جسد الوطن الواحد أفقياً وعموديا بدون ان يكون لها شكل او تنظيم محدد او معروف، وتضم الدولة العميقة: رجال سياسة، رجال أعمال ومال وبنوك، ضباط أمن وجيش، أعضاء برلمان، قضاة، رجال دين وإعلاميين وفنانيين، وكل هؤلاء يشكلون فيما بينهم شبكة من المصالح المشتركة وتكون هذه الشبكة معقدة ومترابطة ولا يعرف معظم أفرادها بعضهم البعض ولكنهم يعملون لهدف مشترك واحد وهو تنمية وحماية مصالحهم الشخصية والامتيازات التي حصلوا ويحصلون عليها والتي غالبا ما تكون طرق الحصول عليها مخالفة للقانون.
وللدولة العميقة ستة أذرع أساسية: الذراع السياسي، الذراع المالي، الذراع التشريعي، الذراع القضائي، الذراع الاعلامي، الذراع التنفيذي والأمني، وكل ذراع من هذه الأذرع يتحرك في اتجاه معين ولكنه في النهاية يصب في مصلحة الدولة العميقة بشكل او بآخر، وتتحرك جميع هذه الأذرع بتناغم شديد يدل على وجود رأس مركزي يتحكم بها جميعا لضمان عدم حصول الاختلاف والتصادم مع بعضها البعض، وتعمل هذه الاذرع مجتمعة على ازالة كل ما يهدد مصالح الدولة العميقة، كما ان محاور او أذرع تنظيم الدولة العميقة يعمل لتأسيس وترسيخ مفهوم (دولة الظل) اي بمعنى خلق ما يعرف (دولة داخل الدولة) وبالتالي توظيف وسائل العنف والضغط بطرق خفية للتأثير على النخب والكتل السياسية والمؤسسات الاقتصادية والإجتماعية في البلاد وحتى المؤسسات الدينية المتنفذة لضمان تحقيق مصالح معينة ضمن إطار ديمقراطي شكلي.
كما أن للدولة العميقة وجهان الاول معلن وظاهر ويتمثل في شخصيات ورجال دولة يتبؤون مواقع ومناصب سياسية ونخبوية متقدمة وشخصيات في مؤسسات الدولة المختلفة، والوجه الآخر فهو وجه خفي وغير معلن وهو مسؤول عن تحريك اذرع الدولة العميقة المعنية والمتغلغلة في مؤسسات الدولة الأساسية لتنفيذ المخططات المرسومة بأياد خفية تعمل بشكل متناغم ومسيطر عليه.
أما مفهوم الدولة الموازية او الكيان الموازي فهو مصطلح تمت صياغته بواسطة المؤرخ الأمريكي (روبرت باكستون) لوصف مجموعة من المنظمات أو المؤسسات التي تُشبه في هيكلها وتنظيمها وإدراتها الدُول، ولكنها لا تعتبر جزءاً رسمياً من الدولة الشرعية أو الحُكومة، وتعمل في المقام الأول على تعزيز الأيديولوجية السياسية والاجتماعية السائدة في الدولة ومثال ذلك حكومة الظل في بريطانيا.
وبعض الدول تطلق مصطلح الدولة الموازية على التنظيمات والتحالفات التي تعتبرها معارضة لها كما حدث في تركيا عندما وصفت الحكومة التركية التنظيم السري لـ (غولن) بالكيان الموازي الذي يسعى إلى تقويض الدولة والحكومة.
وخلاصة الموضوع أن الدولة العميقة تشبه الخلايا السرطانية في جسد الإنسان، وتتغلغل في جميع أجزاء الجسد، ولا تظهر أعراضها إلا في مرحلة متقدمة من المرض، بعدما يتمكن المرض من تدمير أسس الحياة لدى هذا الإنسان.
وأما في الدول فإن نتائج أفعال (الدولة العميقة) تكون مدمرة لوجود كيان الدولة ، وتصل بالدولة أولا الى الدولة الضعيفة ثم الدولة الفاشلة أو الهشة ثم تتطور الى المرحلة القاتلة مرحلة إنهيار الدولة : أخلاقيا، سياسيا، إقتصاديا، إجتماعيا ، تعليميا ، صحيا ، وأمنيا ، وضعف القضاء ، نهب المال العام وإنتشار الفساد المالي والإداري في جميع مفاصل الدولة، غياب العدالة الإجتماعية وسيادة القانون، تدهور الخدمات العامة والبنية التحتية، تدمير منظومة القيم الإجتماعية، تدمير الروح المعنوية والولاء والإنتماء للنظام السياسي والدولة، بروز الهويات الفرعية القبلية والعشائرية والجهوية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وتلاشي هيبة الدولة وأجهزتها ومؤسساتها.
وأما الحلول العملية لمواجهة هذه الظاهرة فهي الإلتزام بالدستور وتفعيل دولة المؤسسات الدستورية والفصل بين السلطات الثلاث، تعزيز وتقوية سلطة القضاء، تطبيق مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية، وكذلك تفعيل الرقابة الشعبية والبرلمانية ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب وتعزيز أجهزة المحاسبة والمساءلة والإعلام.
وحمى الله الأردن العزيز.