الادارة المالية ومواجهة الازمة
سبق وان تناولنا في مقالات سابقة العديد من الجوانب المتعلقة بالازمة التي تسبب بها انتشار فيروس كورونا ، بما في ذلك الخسائر المتوقعة لمختلف القطاعات الاقتصادية ، وسبل مواجهة التداعيات المترتبة على هذا الوباء، واليوم سوف يتم تناول ما يتعلق بالموازنة العامة على وجه التحديد ، خاصة في ضوء ما شهدته موازنة عام 2019 من عدم تحقيق توقعاتها في جانب الايرادات ما أدى الى عجز بعد اعادة التقدير يزيد عن 1.2 مليار دينار ، مقابل عجز مقدر بحوالي 645 مليون دينار وذلك بسبب تراجع معدلات النمو الاقتصادي خلال ذلك العام بصورة رئيسية.
وقد بات من الواضح ان الموازنة العامة في عام 2020 تواجه تحديات كبيرة وأزمة مزدوجة في جانبي الايرادات والنفقات ، فالمستجدات فرضت نفقات اضافية في مجال الحفاظ على الصحة العامة، وفي نفس الوقت تطالب العديد من الجهات ان تقوم الحكومة بتقديم حوافز ودعم للقطاعات الاقتصادية التي تضررت جراء الازمة ،هذا بالاضافة الى الاجراءات المتخذة في جانب السياسة النقدية والتي تعد ركنا اساسيا في تحفيز الاقتصاد وتقليل الاثار السلبية للازمه على مختلف القطاعات الاقتصادية ، هذا في نفس الوقت الذي تتراجع فيه الايرادات المحلية بسبب سياسات الاغلاق والتباعد الاجتماعي.
افترضت موازنة عام 2020 ان الايرادات المحلية سوف تصل الى حوالي 7.75 مليار دينار ،حيث افترضت الموازنة نموها بنسبة تصل الى 10%، منها الايرادات الضريبية بحوالي 5.65 مليار دينار، وبنسبة نمو 17.8% ، والايرادات غير الضريبية بمبلغ 2.1 مليار دينار، واليوم وقد مضى ما يزيد على شهر من سياسة الاغلاق وتعطل العديد من النشاطات الاقتصادية أصبح من الطبيعي التساؤل حول صلاحية هذه الافتراضات وامكانيات تحققها، فمثلاً فيما يتعلق بضريبة الدخل والمقدرة بحوالي 1.3 مليار دينار، وبالرغم من انها في أغلبها ستعتمد على الارباح او الدخول التي تم تحقيقها خلال العام الماضي الا ان الجزء المتعلق بما يجبى من رواتب الموظفين والمستخدمين والذي يصل لحوالي 216 مليون دينار سوف يطاله جزء من تبعات الازمة فالانشطة الاقتصادية التي توقفت أو تضررت ستعكس كل أو جزء من هذا الضرر على رواتب الموظفين،
كما ان الاوضاع الراهنة سوف تنعكس على ما تحققه الشركات من أرباح خلال العام الحالي لينعكس على موازنة العام المقبل. أما الضريبة على السلع والخدمات وعلى التجارة والمعاملات الدولية والمقدرة بحوالي 4.3 مليار دينار ، فسوف يكون أثر الازمة عليها أشد وضوحاً من حيث تغير أنماط الاستهلاك أضافة الى ان العديد من المستهلكين قد فقدوا مصدر دخلهم، وما يفاقم هذا الوضع هو التوقيت الذي يبدو غير ملائم على الاطلاق ، فمن المعلوم اننا حالياً قد تجاوزنا أعياد الفصح، وشهر رمضان على الابواب ومن غير المتوقع ان تعود الامور الى طبيعتها قبل العيد، وقد تستمر تداعيات الازمة، سواءً لدينا أو في الدول المجاورة ، اثناء اشهر الصيف وهي فترة عودة المغتربين وتشهد عادة نشاطاً سياحياً من الدول الشقيقة، وهذا يعني أن الحركة التجارية سوف تتضرر الى حد بعيد.
كما ان سياسة الاغلاق سوف تنعكس ايضاً على الايرادات غير الضريبية، وبالرغم من أن انخفاض أسعار النفط سينعكس ايجاباً على ميزان المدفوعات الا ان الانخفاض في استهلاك المشتقات النفطية، ومع ثبات قيمة الضريبة عليها، سينعكس سلباً على ايرادات الخزينة، ومن الواضح ان السياسة المالية أصبحت تواجه وضعاً لا تحسد عليه، ويمكن تقدير الاثر الكلي للأزمة بشكل أولي على الايرادات بحوالي ٢٥٠ مليون دينار لكل شهريا في الاشهر التي يستمر فيها الحظر، وهذا التقدير خاضع للتغير في ضوء المستجدات المستقبلية والمدى الزمني لاستمرار سياسات الاغلاق، وما سيتم اتخاذه من اجراءات لتنشيط القطاعات الاقتصادية المختلفة،هذا علاوه على ان جزء من هذا الاثر هو تاجيل لدفع الضرائب لحين عودة الدوائر الضريبية للدوام وتحصيل المبالغ المستحقة.
أما في جانب النفقات وكما هي العادة في موازنات المملكة تشكل النفقات الجارية الجزء الرئيسي وبما يصل لحوالي 8.34 مليار دينار، وتشكل الرواتب والاجور للجهازين المدني والعسكري ورواتب المتقاعدين حوالي 65% من النفقات الجارية، أما فوائد الدين العام فتصل الى ما يقارب 1.3 مليار دينار، وما تبقى في أغلبه يذهب للدعم النقدي ودعم الاعلاف والمعونة النقدية المتكررة وتسديد التزامات سابقة والمعالجات الطبية،ودعم الجامعات والوحدات الحكومية وهيكلة الرواتب ومن الواضح ان نفقات الموازنة في أغلبها غير مرنة ويصعب ان توجه لأولويات اخرى.
أما النفقات الرأسمالية فتبلغ حوالي 1.3 مليار دينار منها حوالي 200 مليون دينار مشاريع جديدة. ويبلغ العجز المقدر لهذا العام حوالي مليار و46 مليون دينار ، ويتوقع لهذا العجز ان يلامس حاجز الملياري دينار اذا لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة والتدابير المناسبه. واود ان اوكد هنا بانه وفي جميع الاحوال فلن يؤثر ذلك على قدرة الحكومة على تسديد جميع التزاماتها الواجبة الدفع في أوقاتها المحددة.
وكما هو واضح نظرياً فالموازنة لا يتوفر فيها حيز مالي يمنح السياسة المالية مرونة كافية للعب دور فعال في التصدي لتداعيات الازمة، الا ان توجهات السياسة المالية تؤكد السعي للقيام بما أمكن من أجراءات مثل تأجيل استيفاء بعض الضرائب والرسوم او تقسيطها ،كما ان وزير المالية سبق وصرح بانه لا نية لتخفيض الانفاق، وهو رأي صائب فالظروف الحالية لا تحتمل اجراءات تقشفية، كما أكد أن القروض سيتم تسديدها في موعدها.
وفي نفس الاطار يبدو ان الخزينة سوف تساهم بمبلغ 50 مليون دينار في مبادرة مؤسسة الضمان الاجتماعي لتأسيس صندوق خاص لتأمين العمالة الحرة المتضررة من الاوضاع الراهنة، أضافة الى الاجراءات المتخذة في هذا المجال عن طريق وزارة التنمية الاجتماعية وصندوق المعونة الوطنية، ولعل أهم ما تجدرالاشارة له هو قرار الحكومة بوقف العمل بالزيادة التي أقرت بداية العام الحالي على رواتب العاملين في الجهازين المدني والعسكري اعتباراً من شهر أيار وحتى نهاية العام .
أضافة الى وقف التعيينات في جميع الوزارات والدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية العامة والهيئات والسلطات والشركات المملوكة للحكومة وأمانة عمان الكبرى والبلديات حتى تاريخ 31 /12 /2020، ووفقاً لتقديرات الحكومة يبلغ الوفر الذي سوف يتحقق جراء ذلك حوالي 385 مليون دينار،كما شمل القرار اقتطاعات على المكافأت وبدل التنقل لموظفي القطاع العام وقف العمل بعلاوة النقل الشهرية وعدم صرف مكافآت وبدل تنقلات لممثلي الحكومة في مجالس إدارة الشركات التي تساهم فيها الحكومة، ووقف صرف رواتب (الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر) في الشركات المملوكة بالكامل للحكومة أو التي تزيد نسبة تملك الحكومة فيها على 50 %، واقتطاع ما نسبته 50 بالمئة من المستحقات المالية للمستخدمين على حساب شراء الخدمات الذين ليسوا على رأس عملهم، ولا يتقاضون رواتب تقاعدية، أما من يتقاضون رواتب تقاعدية وتم شراء خدماتهم كالمستشارين وغيرهم سيتم وقف مخصصاتهم بالكامل في حال لم يكونوا على رأس عملهم. ومن الواضح ان الحكومة ومن خلال المبالغ التي توفيرها عبر هذه الاجراءات تستطيع ان تغطي بعض النفقات الطارئة وان توجه بعضاً منها للأولويات التي تتطلبها المرحلة الحالية.
برزت خلال الفترة الاخيرة بعض الاصوات التي تطالب بتأجيل سداد الديون، الا أنه وفقا لتصنيف البنك الدولي يعتبر الأردن من الدول ذات الدخل المتوسط المنخفض وليس الفقيرة، في حين ان الدول الكبرى تدرس تأجيل الديون على الدول الفقيرة لذلك من غير المتوقع ان نستفيد من ذلك التوجه، الا انه وبالرغم من اننا قد لا نكون مؤهلين لجدولة ديوننا من الدول المقرضة، خاصة وان سندات اليوروبوند المصدرة وقروض صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي عادة غير قابلة لإعادة الجدولة إلا في حال وجود ظروف استثنائية ، الا انه وفي حال تسنت لنا الفرصة للتفاوض على ترتيب جدولة الديون الخارجية مع الصندوق أول البنك الدوليين وتم تأجيل تسديد الأقساط والفوائد فإن ذلك سيعزز احتياطي العملات الأجنبية في البنك المركزي، خاصة وأن تأجيل سداد الديون يعمل على تقليل الاحتياجات التمويلية للموازنة بمقدار تلك الأقساط والفوائد المؤجلة وتقليل الاحتياج للتفاوض على قروض جديدة، مع ايجاد فسحة للحكومة لكي تستطيع العمل براحة على موازنة التمويل في الموازنة العامة. أما الحصول على قروض جديدة فهو صعب في ظل الظروف الحالية .
لذلك فإن فكرة التفاوض على إعادة جدولة الديون مع الدول أو الجهات المقرضة هي الفكرة الأهم، كوننا في هذا الظرف الاستثنائي ،أما بالنسبة للدين الداخلي الذي معظمه سندات وأذونات خزينة وفي ضوء تخفيض البنك المركزي لسعر الفائدة يمكن للحكومة أن تقوم باستبدال السندات والأذونات التي لديها سواء كانت مستحقة الدفع أو غير مستحقة بسندات وأذونات جديدة بفائدة أقل ، مما يخفض من كلفة خدمة الدين ويقلص عجز الموازنة.
الايرادات التي تقوم الحكومة بتحصيلها ترتبط طردياً بمستوى النشاطات الاقتصادية المختلفة،لذلك فان تعطل أي قطاع وعدم تمكنه من العمل بشكل ملائم ستكون له انعكاسات سلبية على حصيلة الايرادات الحكومية، ليس هذا فقط وانما أيضاً ستكون له انعكاسات على القطاعات الاقتصادية الاخرى بفعل الترابطات وسلاسل التزويد وغيرها من العوامل، والوعي لهذا الامر يتطلب الاقرار باننا ، وكما سبق أن أكدنا مراراً، نمر بمرحلة استثنائية لذلك لا بد من قرارات استثنائية ما يتطلب من المسؤولين ذوي العلاقة ان يكونوا على قدر المسؤلية وأن يوظفوا كل الامكانات والادوات المتاحة لمواجهة التحديات والاوضاع الراهنة وبالذات ما يتعلق باتخاذ القرارات بالتوقيت الملائم مع الحرص على تكامل وانسجام السياسات المالية والنقدية والاقتصادية .
وقد تكون التبعات المترتبة على قرارات السياسة المالية ذات أثر ليس فقط على المدى القصير وانما المتوسط والطويل ايضاً ، فمثلاً المفاضلة بين منح اعفاء ضريبي أو تقديم حوافز نقدية لمرة واحدة قد تبدو انها تحمل نفس الاثر في طياتها ،الا ان الواقع ان هناك عواقب واختلافات جلية بين الامرين ، والمرحلة الحالية تتطلب من السياسات المالية الاهنمام بتحديد أولويات الانفاق والتركيز عليها بشكل جيد ومراعاة القدرات المالية للخزينة العامة، فالاردن لا يستطيع ان يوفر حزماً تحفيزية كتلك التي وفرتها الدول الصناعية المتطورة لأسباب عديدة، ولكن في نفس الوقت من المهم ان لا يتم تأخير المستحقات المطلوبة للقطاع الخاص الناجمة عن تقديمه لخدمات او سلع للقطاع العام وحتى ردياته الضريبية، حيث يشكل ذلك مساهمة في توفير السيولة التي يحتاجها قطاع الاعمال في المرحلة الراهنة، والمرحلة الحالية قد تستدعي تخفيف القيود على العجز المالي ومستوى المديونية ولكن مع الحفاظ على الانضباط المالي مع التأكد من الاجراءات المتخذة موجهة بشكل جيد وملائم ومدروس وبما لا يؤدي لفقدان السيطرة ما يؤدي لاشكالات مستقبلية تفوق ما قد يتحقق من اثار ايجابية مرحلية.
القدرة على الاستجابة للتحديات الاقتصادية وسبل مواجهتها وبالتالي اعتماد السياسات واتخاذ القرارات الملائمة لا بد ان تراعى فيها الظروف المحلية سواء تلك المتعلقة بالقطاع العام او بالقطاع الخاص وكذلك المحددات التي تمكن أو قد تحول دون السير قدماً في سياسة محددة، وهذا يقودنا لأهمية ما تتمتع به الاجهزة المعنية بالسياسات المالية من قدرات تحليلية وأدوات تنفيذية تمكنها من تقدير الاثار المتوقعة للأحداث المختلفة مرحلياً ومستقبلاً، مع توفير البيانات الموثوقة التي تمكن من اتخاذ قرارات ملائمة وموجهة نحو أهداف محددة ،مع قدرة على التنبؤ بالاثر الاقتصادي او الاجتماعي المترتب على تلك القرارات .
* وزير مالية سابق