الحدوتة
بقلم : سهير جرادات
في كل ليلة بعد أن ينتهي أهالي الحي من أعمالهم ، يذهبون إلى المقهى الصغير المتهالك ليستمعوا إلى " الحكواتي "، الذي يُعد واحدا من أهم الشخصيات التراثية المستمدة من التقاليد، حيث يسرد حدوتة شعبية والأحاديث والقصص الواقعية منها والخيالية، عن سير شعبية قديمة كحكايات ألف ليلة وليلة وعنترة والزير سالم وأبي زيد الهلالي وغيرها .
يجيد "الحكواتي" الذي يعتلي الكرسي في وسط المقهى بكل شموخ، فن الإلقاء والحركات التعبيرية، ويتأثر بالكلمة والحادثة التي يسردها ويتخيلها ، ويحمل بيده سيفا يلوح به خلال سرده لمجريات الحدوتة أو الحكاية ، ليزيدها تشويقا وجاذبية ، مما يشد انتباه وتفاعل الجمهور الذي يتابع بتأثر سرد الحدوتة سواء أكانت حقيقية أو من نسج الخيال.
وتصل شحنات السرد مع الأحداث التي تدور في تلك الحدوتة إلى حد تجسيد الراوي لدور الشخصية التي يحكي عنها، مستعينا بالتعابير الجسدية وحركات الوجه واليدين، ومع ذروة السياق الدرامي، يصل تفاعل الجمهور إلى درجة وصف أجواء المعركة والتعايش معها، حيث ينقسم إلى فريقين وكأنهما جيشان، وعندما يصل أو يقرر " الحكواتي " موعد زفاف بطل الحكاية وبطلتها، يتم تزيين المقهى من قبل الجمهور الذي يهيئ أجواء المقهى مسبقا،بما يتوافق مع طبيعة الأحداث المتواصلة التي يرويها "حكواتي الحي".
رغم كل التفاعل الذي يحدثه الجمهور مع " الحكواتي "، إلا أنه فور الانتهاء من سرد الحدوتة ، ينطلق كل واحد إلى داره؛ ليخلد إلى النوم استعدادا لاستقبال يوم جديد و حدوتة جديدة وأبطال جدد ، وحتى "الحكواتي" يطوي صفحة هذه الحدوتة التي انتهى للتو من سردها ، ليبحث عن حدوتة جديدة يرويها في اليوم التالي على جمهوره ، وما عليه سوى تحديد آلية سردها لتكون أكثر جاذبية لتلقى تفاعلا أكبر من قبل الجمهور.
وبعد التفكير بدور " الحكواتي "، سنجد أن يومنا هذا يحوي العديد من الشخصيات التي تشبه هذا الحكواتي، الذي يقدم لنا الحدوتات والقصص بطريقة جذابة وتفاعلية ودراماتيكية، بحيث أنك تعيش معه بأحاسيسك ويشحنك بطاقة كبيرة ، لتجد بعد فترة وجيزة أنك مشحون بحدوتة انقضت ونسيها ذلك " الحكواتي " ،وانشغل بالبحث عن غيرها ذات الإثارة الأكبر .
وباستعراض سريع للحدوتات التي قُصت علينا ، وتفاعل معها الشعب الأردني نجد أنها مجرد زوبعة في فنجان ، بدءا من حدوتة :-( البطيخي والشمايلة غيت ، ثم المصفاة وقضية فرار السجين شاهين ، ومرورا بقضية الفوسفات ، والمفاعل النووي،عدا عن الذهبي، وخطة كيري ، وروايات رفع الاسعار والدعم، ومن ثم مناقشات الموازنة العامة، ومناقشة مشاريع قوانين الضريبة ، والضمان الاجتماعي، والخدمة المدنية والهيكلة، وصولا إلى رواية حجب الثقة وطرد السفيرالاسرائيلي).
إن كانت وظيفة " الحكواتي " قد تلاشت واختفت من مجتمعاتنا في هذه الأيام خاصة بعد انتشار ظاهرة العولمة ، وما بقي منها مجرد المحافظة على التقاليد ، إلا أننا نرجو أن تصدق أمانينا مرة واحدة فقط ، وأن لا يكون ذلك الحماس الذي أصاب مجلس نوابنا في مطالباتهم التصعيدية،بطرد السفير الاسرائيلي وإغلاق سفارة العدو، كرد على استشهاد القاضي زعيتر مجرد حدوتة ....
أتمنى أن يتوقف الأمر عند الحكواتي، وأن لا يمتد بنا الحال إلى قصة ألف ليلة وليلة عندها ستبقى النهاية مفتوحة بيد "شهريار" ...
Jaradat63@yahoo.com