الوسيط المورفين والوزراء المختطفون وحكمة الفأر وسماحة الذئب
لقد نجح رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية "محمود عباس"، في حث جامعة الدول العربية على ضرورة عقد اجتماع طارئ على مستوى وزراء الخارجية العرب؛ لبحث تداعيات المفاوضات المتعثرة مع إسرائيل، وللتفكير بكيفية مواجهة مواقفها المتشنجة تجاه المطالب الفلسطينية، وعلى رأسها التنصل من إطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين. هذه المرَّة كان "محمود عباس" واضحاً في طلبه، فهو يريد من الوزراء العرب قرارات حاسمة؛ لإرباك الخصم المتعنت في مطالبه. وكما أوضح "أبو مازن" بأن الأمور إذا ظلت على ما هي عليه، فإنه لن يتورع عن الدعوة إلى عقد قمة عربية طارئة. ما بين تهديدات "أبو مازن" في اللجوء إلى المنظمات الدولية لمعاقبة إسرائيل، وبين تهديدات "نتنياهو" رئيس الحكومة الإسرائيلية، باتخاذ سلسلة من العقوبات الرادعة رداً على خطوة أبو مازن التصعيدية وتهديداته، فإنه يطل علينا وزير الخارجية الأمريكي "جون كيري"، متوسطاً مشهدية "التنابز بالعضلات"، ومتسلحاً بجملة من النصائح للطرفين، تدعو إلى ضرورة ضبط النفس، وعدم اتخاذ إجراءات ثأرية متبادلة، وذلك على الأقل إلى حين تشاوره مع الرئيس الأمريكي، مؤكداً في الوقت نفسه وعوده في بذل أقصى ما بوسعه لإنقاذ مفاوضات السلام. لو أعملنا مبضع التحليل في المواقف الثلاثة (الفلسطيني والإسرائيلي والأمريكي)، لوجدناها مواقف متنافرة ظاهرياً ومتناغمة باطنياً، وذلك بالنظر إلى عدة اعتبارات نسوق بعضاً منها على النحو الآتي: أولاً: أبو مازن أصبح في وضع لا يحسد عليه، بخاصة بعد التراشقات الأخيرة بينه وبين خصمه اللدود "محمد دحلان". هذه التراشقات أثارت ضجة واسعة النطاق، مخلفة وراءها إستياءً جماهيرياً عارماً، ما زالت تداعياته مستمرة داخل المشهد الفلسطيني، ممتداً إلى عدد من رموز السلطة الوطنية الفلسطينية ذاتها، والتي أعلنت بشكل واضح بأن تلك التراشقات، أساءت إلى سمعة القضية الفلسطينية في وقت حساس وعصيب. هذا الإستياء أو هذا السقوط في الخطاب السياسي، أجبر "أبو مازن" – من باب الإستدراك – على ضرورة تحويل نظر الجماهير نحو شجاعة (مفتعلة)، قوامها الصراخ بصوت عالٍ – للتغطية على أصوات الإستياء – بوجه نتنياهو وتحديه علنا، والضرب بتهديداته عرض الحائط؛ لإرغامه على تليين مواقفه المتصلبة تجاه المطالب الفلسطينية العادلة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن جانباً من هذا التحليل ذهبت إليه بعض الصحف الإسرائيلية. ثانياً: ما دام "نتنياهو" رئيساً لوزراء شعبٍ يحمل صفة جهنم (هل من مزيد)، فهو الآخر حتماً سيظل في وضع لا يحسد عليه. فهناك مطالبات شعبية ملحة بضرورة فرض السيادة الإسرائيلية على الأماكن المقدسة (الإسلامية والمسيحية)، إضافة إلى تلك المطالبات التي لا يعتريها كلل أو ملل، بضرورة بناء مزيد من المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية، التي باتت مفاوضات نتنياهو – من وجهة نظرهم – تهددها بالتوقف أو التجميد، مما يهدد بنهاية المطاف جوهر الوجود الإسرائيلي وعقيدته المقدسة، القائمة على "الوعد الإلهي" الذي يتضمن نفي الآخر ومحوه. فالتاريخ أصبح لديهم (لاهوتاً واللاهوت تاريخاً) بحسب تعبير الكاتب "أحمد سليم" الذي ورد في كتابه "مملكة داود وسليمان العبرية". وبذلك لا يقبل "نتنياهو" إلا بشريك يعترض فوق الطاولة ويوقع تحتها!. ثالثاً: ما دام جون كيري، الراعي الرسمي للمفاوضات (الفلسطينية – الإسرائيلية) يحمل هذه الصفة، فهو لا يستطيع أن يقوم بدور يخترق المهمة التي مارسها سابقوه، ونعني بذلك لعب الدور التقليدي الذي أطلقنا عليه (الوسيط المورفين). إذن مهمة هذا الوسيط تتجلى في كنهها بضرورة إطالة عمر المفاوضات، من خلال مزيد من الحقن التخديرية، تمهيداً لإجراء عملية جراحية ضخمة، تأتي على آخر ما تبقى من أراضٍ فلسطينية، يصرّ المفاوضون الفلسطينيون على المقامرة بها على مائدة (المفاوضات – التنازلات)؛ على أمل الوصول إلى دولة فلسطينية كاملة السيادة، والتي هي في حقيقتها – بلغة الإفتراض – لو قامت فإنها ستكون بلا قلب، وبلا أرجل، وبلا رأس. هذا الوسيط هو حتماً ما كان ولن يكون نزيهاً في يومٍ من الأيام، ما دام يساوي بين الضحية والجلاّد، ما بين اللص وصاحب الحق، ما بين التاريخ الأصيل والمزيف الطارئ. فهو ما فتئ يهدد ويتوعد الفلسطينين بإخلاء الساحة لنتنياهو، لتنفيذ عقوباته القاسية إذا لم يبد الفلسطينيون حسن النية، والإستعداد لإحراز تقدم ملموس في مفاوضات السلام. وبما أن كيري أعلن أنه بحالة ديمومة تعثر المسار التفاوضي، ستقوم حكومته بإعادة مراجعة لعملية السلام، فإن ذلك يدل على تهديد حقيقي للجانب الفلسطيني، وبالتالي إدانته وتقريعه وتحميله مسؤولية فشل المفاوضات برمتها، ليعلن بعدها الوسيط الأمريكي أمام العالم بأنه قد "جنت على نفسها براقش". إذن من مصلحة هذا الوسيط (غير النزيه)، إطالة أمد المفاوضات مع السير قدماً بانتزاع المزيد من التنازلات لصالح إسرائيل، مقابل تضخيم مكتسبات (الدولة – الوهم) في عقول منتظريها، ليصب ذلك جميعاً في نهاية المطاف بخانة المصالح الأمريكية الحيوية في المنطقة، مع الظهور بالوقت نفسه بمظهر (الأب الحاني)، الحريص على تطلعات وآمال أبنائه ( المفاوضون، والمتقاتلون، والمنقسمون على أنفسهم من النيل إلى الفرات). عندما قلنا في مقدمة الإعتبارات السابقة، أن أطراف التفاوض (متنافرة – متناغمة)، كنا نستند في زعمنا على الحقائق الآتية: واقع فلسطيني وعربي يزداد كل يوم تدهوراً وبؤساً، تقدم استيطاني شرس ما زال مستمراً منذ بدء العملية التفاوضية، علم محمود عباس الأكيد بأن من يستقوي بهم من العرب لا حول لهم ولا قوة، أبو مازن خير من يعلم بعدم نزاهة الوسيط الأمريكي، خيارات أبو مازن التي يهدد بها لن ترتقي إلى مرتبة شعرة في مفرق نتنياهو وهلمَّ جرا. ولكن بالمقابل لو أراد الجانب الفلسطيني – من وجهة نظرنا – التوقف عن "مَسْرحة التفاوض"، والتوقف عند حدود التنافر الحقيقي، لانتهج أبو مازن طريقاً لاحباً وواضحاً لا يتطلب منه سوى إمتلاك الشجاعة الحقيقية لإعلان فشل المفاوضات، والإعتذار إلى الشعب الفلسطيني، وتقديم استقالته. وفي النهاية تضع ذاكرتنا بين أيديكم، قصة بعيدة كل البعد عن اجتماع وزراء الخارجية العرب (الطارئ)، وبعيدة أيضاً كل البعد عن لغة الساسة العرب "ملأنا البرّ حتى ضاق عنا..... وماء البحر نملؤه سفينا": في ذات يوم من الأيام، اجتمعت حشرات الغابة، واكتمل النصاب للنظر فيما أصابها من الذئب الذي طغى وبغى. بدأ الاجتماع في الغابة بحضور (الذبابة، والبعوضة، والبرغوث، والعنكبوت، والنملة، والقملة، والدبور، والقراض، والعتة، والصرصور). وعند ما قالت النملة في الكلمة الإفتتاحية (أيها الإخوة)، ثار خلاف واسع، فغضبت القملة واقترحت أن تكون (أيها الزملاء)، بينما قال الدبور: يجب أن نكون واقعيين ونبدأ بكلمة (أيتها الحشرات الكريمة). فاعترض العنكبوت وطلب حذفها من محضر الإجتماع، فعقبت الذبابة قائلة: إنه من الأفضل أن تكون (أيها الناس). فصرخ الصرصور معترضاً: إحنا مِشْ ناس، وهدد بالإنسحاب. فاقترح القراض قائلاً: هناك كلمة ستكون محل إجماع منا وهي (أيها الهوام). فصرخوا بوجهه بحجة أن الكلمة غير مفهومة، فاقترح القراض إصدار ملحق مع البيان الختامي لتوضيح معناها، لكنهم رفضوا ذلك. مما جعل النملة تقترح (أيها الحاضرون)، فاستحسنوا الكلمة لولا اعتراض الذبابة التي طلبت أن تكون الكلمة أكثر شمولاً على نحو (أيها الحاضرون والغائبون)، وأضافت النملة قائلة: ليس عيباً أن نستعين بكلمات الشاعر أحمد رامي في أغنية عبد الوهاب (أيها الراقدون تحت التراب). فاعترضت الذبابة: وأين الطائرون في الهواء مثلي؟. فتأملهم الفأر وقال بهدوء وحكمة: علينا منعاً للخلاف أن نقول (أيها)، ثم نتركها هكذا مطلقةً لنترك الحرية لكل واحد منا لملئها حسب هواه. فاحتجت النملة قائلة: بذلك سوف يعرف الناس أننا لم نتفق، لذلك أقترح حلاً حاسماً (أيها الصرصور.. أيها الدبور.. أيها الفأر..) وهكذا كل واحد باسمه فيمتنع الخلاف بيننا. فردت العتة: ما تقولينه يصلح بالأفراح، ولكننا نحن في مؤتمر كبير ومحترم. فاعترضت الذبابة على كلمة محترم، وطلبت حذفها وقالت: إننا ما زلنا واقفين عند كلمة (أيها) فهذا أفضل. وهنا عوى الذئب في الخارج، ووصل إليهم صوته، فقال الفأر على الفور: لماذا لا نخاطبه مباشرة ونقول (أيها الذئب)؟ فوافقوا على ذلك بالإجماع وأضافوا إليها: أيها الذئب خذ ما يعجبك، وكل ما تشاء وقتما تشاء وكيفما تشاء.. صحتين وعافية على قلبك. للمتابعة على الفيس بوك: الدكتور محمد السنجلاوي