وظيف الحب من أجل الإصلاح الدستوري
تتكون أطراف قصة الحب محل هذا المقال، من الأسرة المالكة في كل من بريطانيا وبلجيكا التي يسري في عروقهما الدم الألماني من ناحية، ومن الأسرة المالكة في ألمانيا/بروسيا من ناحية أخرى. وعندما بدأت القصة، كانت بريطانيا وبلجيكا تأخذان بالنظام البرلماني والملكية الدستورية، في حين أن أبناء العمومة في برلين يتمسكون بالسلطان المطلق.
لم يكن أمام الأسرتين في بريطانيا وبلجيكا من وسيلة لإنقاذ الأسرة المالكة في ألمانيا من نفسها والتخلص من السلطان المطلق، سوى استدراج قصة حب بين أميرة إنجليزية، وبين أمير ألماني في طريقه الى الملك، فلعل هذا الأمير والأميرة، عندما يتوليان الحكم، يقومان بالاقتداء ببريطانيا وبلجيكا. أما عن علاقات القربى بين تلك العوائل المالكة التي مهدت الطريق للحب، فكانت بالنسبة للطرف الإنجليزي البلجيكي تتمثل في أن ليوبولد، أول ملك لبلجيكا عند استقلالها عن هولندا عام 1830، هو ألماني الأصل من عائلة ساكس كوبورغ وتولى الملك عام 1831، وتناسلت منه الأسرة المالكة التي لا تزال على رأس بلجيكا حتى الآن. وكان ليوبولد هذا، قد تزوج الأميرة شارلوت، الإبنة الشرعية الوحيدة للأمير جورج الذي أصبح فيما بعد جورج الرابع ملك بريطانيا، وأمها ابنة عمته الأميرة الألمانية كارولين التي أصبحت ملكة، عند تولي زوجها جورج الملك. لكن الأميرة شارلوت زوجة ليوبولد، ماتت قبل أن يتولى والدها الملك. ولذلك، فقد تبنت الأسرة الإنجليزية المالكة الأمير الألماني ليوبولد، وأصبح جنرالاً في الجيش الإنجليزي.
وعندما احتاجت بلجيكا ملكاً، اقترحت عليها الأسرة الإنجليزية الأمير ليوبولد، وبتأثيرها وافق البرلمان البلجيكي على ذلك عام 1831، وأصبحت بلجيكا أول دولة في العالم، تأخذ منذ تأسيسها بالملكية الدستورية والنظام البرلماني. وفوق ذلك، فقد عمل الملك ليوبولد جاهداً للتقريب بين الأمير البرت ابن شقيقه، وبين الملكة العذراء فيكتوريا ملكة بريطانيا، ابنة الأمير ادوارد شقيق جورج الرابع، أي أن زوجة ليوبولد المتوفاة، هي ابنة عم الملكة فيكتوريا. والملكة فيكتوريا هذه، منحدرة من عائلة هانوفر الألمانية، لأن جدها الأكبر هو جورج الأول رأس عائلة هانوفر المالكة في بريطانيا، وأمها من عائلة ساكس كوبورغ الألمانية التي ينتمي إليها زوجها وعمه ملك بلجيكا.
ومن جهة الأسرة المالكة في برلين، فهي ذات صلة قربى وثيقة مع العائلة المالكة الإنجليزية وبالتالي البلجيكية. ذلك أن الأميرة صوفيا دوراثي شقيقة الملك جورج الثاني ملك بريطانيا، وجد والد الملكة فيكتوريا، هي زوجة فريدريك وليام الأول ملك بروسيا المنحدر من عائلة الهوهزوليرن المالكة، وأصبحت دوراثي الإنجليزية هذه، ملكة (Consort) باعتبارها زوجة للملك الألماني. وأنجبت صوفيا فريديك الثاني ملك بروسيا، الذي تناسل منه ملوك عائلة الهوهنزوليرن وأصبحوا يحملون لقب امبراطور ألمانيا.
وهكذا، فإنه في عام 1848، كانت بريطانيا وبلجيكا اللتان تأخذان بالنظام البرلماني والملكية الدستورية، يربط بين البيت المالك فيهما، وبين البيت المالك في بروسيا التي تأخذ بالملكية المطلقة، أقوى علاقات الدم والنسب.
وعندما اجتاح الربيع الأوروبي دول القارة عام 1848، قادماً من فرنسا الجمهورية، كانت مطالب شعوب أوروبا، بما في ذلك شعب بروسيا الألمانية، هي حرية الرأي وحرية الصحافة وعدم فرض قيود عليها أو على الإجتماعات العامة، والتخلص من فساد وعبث أصحاب المقامات الرفيعة، وإقامة حكم يكون فيه الشعب مصدر السلطة وفقاً لإنتخابات حرة ونزيهة، وتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات، وهذه المطالب الدستورية كانت قد تحققت الى حد كبير في كل من بريطانيا وبلجيكا، وكانت تلك الشعوب تسعى للوصول الى حكم مماثل للحكم في الدولتين، أي الأخذ بالنظام البرلماني والملكية الدستورية.
وظهر واضحاً للأسرتين المالكتين في بريطانيا وبلجيكا، أن انحناءة ملوك أوروبا وأمراءها أمام مطلب شعوبهم، كانت شكلية لاحتواء الناس، عندما أصبح هؤلاء الملوك والأمراء، يأخذون بنهج الإغواء وشراء الضمائر، والإيقاع بين فئات المواطنين، ويستخدمون القوة وسوق الناس الى السجون، وكل هذا من أجل إسكات شعوبهم وإطفاء ثورتهم. وأدرك أصحاب الدم الألماني في بريطانيا وبلجيكا، أن التصدي للشعوب التي كسرت حاجز الخوف، لن يكون له في النهاية جدوى، وأن إستمراره سينتهي بإنتصار الشعوب لا محالة، وقد يؤدي في النهاية الى تصفية الأسر المالكة المعاندة. ومن هنا فقد كان تخوف الأسرتيين المالكتين في بريطانيا وبلجيكا على أسرة الهوهنزوليرن كبيراً، فتحركتا لإعادة العقل الى هذه العائلة. وما كان يمكن أن يتم ذلك عن طريق النصح والإرشاد، لأن ذلك يمكن أن يوحي بأن الأسرتين تشعران بالتعالي على عائلة الهوهنزوليرن المالكة في بروسيا، في حين أن هذه العائلة التي يمتد توارثها للملك على مدى أكثر من ألف سنة، كانت تشعر بالفخر والإعتزاز أمام الأسر المالكة الحديثة العهد بالملك، ومنها الأسرتان في بريطانيا وبلجيكا، المنحدرتين من إمارات ألمانية صغيرة، تسبح في فلك بروسيا والعائلة المالكة فيها. ومما زاد في قوة مركز بروسيا، أن تأثيرها أدى الى تجميع الدويلات الألمانية التي كان عددها (300)، قبيل الغزو النابليوني عام 1806، لتصبح (39) دويلة بعد هزيمة نابليون عام 1814، وتشكل منها إتحاداً كونفيدرالياً عاصمته فرانكفورت في بروسيا.
كان التفكير الملكي الإنجليزي البلجيكي لإعادة العقل الى عائلة الهوهنزوليرن، التي إختارت طريق إسالة دماء شعبها للمحافظة على سلطانها السماوي المطلق، وبالتالي حمايتها من نفسها، تفكيراً حضارياً وإنسانياً، وفي ذات الوقت مصلحياً. فقد توصلت الأسرتان الملكيتان، الى أن الطريق الأفضل هو الوصول الى أمير من عائلة الهوهنزوليرن في طريقه الى الملك، والتأثير عليه بالتعليم والتثقيف، للوصول الى إقناعه بأن إعطاء الشعب حقه في ممارسة السلطة، من خلال من يمثلة في انتخابات حرة ونزيهة، هو الوسيلة الوحيدة لبقاء النظام الملكي واستمراره، أما من ينكر على شعبه هذا الحق، فسوف تكون نهايته مأساوية، والأمر بالنسبة لهذه النهاية هو مسألة وقت. وهذا التعليم والتثقيف يمكن أن يتحقق عن طريق تزويج صاحبة السمو الملكي الأميرة فكتوريا، أكبر بنات الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا، لصاحب السمو الملكي الأمير فريدريك، الإبن الوحيد لوليم الأول ولي عهد بروسيا الذي بلغ الخامسة والخمسين من عمره ويعاني من المرض. كان هذا هو الذي أنتهى اليه في أوائل عام 1851، تفكير ملكة بريطانيا وزوجها البرت، وملك بلجيكا ليوبولد الأول عم البرت. فهؤلاء الثلاثة، يسرى في عروقهم الدم الألماني، كاملا بالنسبة لملك بلجيكا وإبن أخيه البرت، ومعظمة بالنسبة لملكة بريطانيا، حيث والدها وأجدادها ملوك بريطانيا هانوفريون في الأصل، وأمها المانية، كما أسلفنا. فإن نجحت الخطة وتحقق الزواج، فإن بروسيا التي تشكل من حيث المساحة والسكان، ثلثي ألمانيا، وتعتبر القوة الكبرى في وسط أوروبا، سوف تجعلها رابطة المصاهرة، حليفاً قوياً لبريطانيا، وبالتبعية لبلجيكا.
وبدأ تنفيذ خطة النسب، بدهاء ملكي، اعترف له كتّاب التاريخ السياسي بالذكاء المفرط. كان عمر الأمير فريدريك (20) عاماً، وهو سن ملائم للزواج، لكن عمر الأميرة الإنجليزية (11) عاماً فقط، ومن ثم فان الوسيلة الوحيدة التي تجعل الأمير ينتظر سبع سنوات حتى تبلغ الأميرة سن الزواج، وهو (18) سنة وفق القانون الإنجليزي، هي الحب وحده وفقاً للدهاء الملكي. وهكذا كان على الحب أن يولد ليتحقق المراد.
ومما شكل عنصراً إيجابياً في تنفيذ الخطة، التكوين والتأهيل الشخصي للأمير فريدريك، فأمه هي الأميرة أوغستا (Augusta) إبنة أمير مقاطعة ساكس فايمر (Saxe- Weimar)، وفامير هي في الأصل مدينة وأصبحت مقاطعة، ومشهورة في أوروبا بأنها مركز الفكر التحرري في المانيا، ولديها دستور يحدد صلاحيات أميرها، ويعطي لمواطنيها دوراً كبيراً في المشاركة في الحياة السياسية من خلال مجلس ينتخبوه. وكانت الأميرة الأم أكثر أميرات ألمانيا شهرة في مواقفها التحررية، الأمر الذي تسبب لها في خلافات كبيرة مع زوجها وليام والد فريدريك. وهكذا حمل الأمير العريس والملك المنتظر، كثيراً من أفكار أمه وعائلتها. وبتأثير أمه أصبح يتقن الإنجليزية والفرنسية ويقرأ الفكر التحرري المكتوب بهاتين اللغتين، وخرج على تقاليد عائلتة الملكية التي تقتصر تعليم ابنائها على الحياة العسكرية وفن الحروب، ودخل جامعة بون، ليدرس التاريخ والقانون، وأنماط الحكم الرشيد وعلوم السياسة. وشكلت حياة الجامعة للأمير، بيئة مجتمعية، رسخت لديه فكراً تحررياً جعله يختلف في آرائه وطروحاته عن أبناء البيت المالك. وهكذا كان الأمير جاهزاً ليتقبل النهج الإنجليزي والبلجيكي في الحكم.
ومن ناحيتها كانت أوغستا والدة الأمير، تتمنى أن يسير ولدها على النهج الإنجليزي في الحكم عنما يصبح ملكا، وتسعى جاهدة لمصاهرة العائلة الإنجليزية. وبينما كانت شعوب أوروبا في أوائل عام 1852، تغلي حنقاً على ملوك الحكم المطلق، الذين ربحوا الجولة الأولى في تصديهم وحربهم على تلك الشعوب، كانت العائلة المالكة الإنجليزية تفكر بالحب، كوسيلة لإنقاذ أبناء العمومة في برلين من أنفسهم، عندما يحين وقت الجولات اللاحقة. وهكذا وجهت العائلة الإنجليزية دعوة الى الأمير فريدريك، لزيارة معرض سيتم إفتتاحه في لندن، وشجعت الأم ولدها على الزيارة لبلد الثورة الصناعية ونظام الحكم المستقر. وفي لندن أخذ ألبرت زوج الملكة فيكتوريا الأمير الضيف تحت جناحه، بعطف وحب وتكريم لزيارة المعرض، تاركاً لابنته الأميرة فيكتوريا ذات الـ (11) عاماً، لتلازم الأمير في تجواله وتحركاته، وعيونه، أي الأب، ترقب من بعيد. وأعجب الأمير بما رأى وبما سمع وما علم، وشاهد على الطبيعة برلماناً يستجوب حكومة ويحاسبها، وحرية لا يدنس قدسيتها رقيب، فأعجب بذلك، لكن إعجابه بالأميرة، كما تدل الرسائل المتبادلة بعد العودة، كان أكبر.
ارتاحت أوغستا والدة الأمير لهذه العلاقة، وسعدت بعواطف الإبن المتجهة إلى لندن. لكن زوجها الأمير وليام، عارض هذا التوجه عندما عرف به، وأعلن أنه يفضل مصاهرة عائلة رومانوف المالكة في روسيا، ليصبح القياصرة بعراقتهم المعروفة أنسباءه. وأمام تعارض رغبة الأم مع توجهات الأب، كان الفيصل الحاسم هو عواطف العريس المضمونة من قبل الأم. وهكذا، ظل تبادل الرسائل والزيارات بين برلين ولندن، يلهب مشاعر الحب عند الأمير والأميرة، إلى أن تمت النهاية السعيدة في نيسان/أبريل عام 1856، وأعلن في برلين ولندن خطبة الأميرين، وتم الانتظار إلى 25/1/1858، حيث بلغت الأميرة (18) عاماً، واستكملت مراسيم الزواج في كنيسة سانت جيمس في لندن.
ولتحقيق الغاية من المصاهرة، فقد كانت الأسرة المالكة الإنجليزية، قد أخضعت ابنتها خلال أعوام الحب السبعة، لمنهج تعليمي مكثف في موضوعات الحكم والدستور، ودور الشعب في ممارسة السلطة من خلال برلمان منتخب، وتعميق المفاهيم السليمة للملكية الدستورية والنظام البرلماني، التي لا تسمح للملك، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالتأثير على تصويت البرلمان، وتجعل تدخله جريمة من الدرجة الأولى (High crime)، وفقاً للقانون الصادر لهذه الغاية عام 1783 في عهد جورج الثالث. وهذه التعاليم والمفاهيم التي ترسخت في التكوين الذهني للأميرة، أدت إلى إيجاد تقارب ذهني كبير بين الزوجين. وعلى خلاف الزيجات الملكية والنسب الذي يحدث بين العوائل المالكة، ويتم ترتيبه بين تلك العوائل، ليخدم أغراضاً سياسية، دون حاجة للقاء مسبق بين العروسين، أو مشاهدة أحدهما الآخر قبل الزواج، فإن زواج فريدريك وفيكتوريا تم عن حب ترسخ على مدى سبع سنوات، وذلك بمعزل عن غايات الأهل ومصالحهم السياسية. وأنجب الزوجان ثمانية أبناء، أكبرهم ويلهالم الذي أصبح فيما بعد امبراطوراً. ولم يؤثر تعاقب الأيام والسنين على حب الزوجين لبعضهما، وإنما كان يزيد من تعلق أحدهما بالآخر، إلى الحد الذي أصبحت الأسر المالكة تصفهما بالأميرين العاشقين.
انضم الأمير وزوجته إلى تيار الليبراليين في بروسيا، وناصرا أعضاء هذا التيار في البرلمان البروسي. وفي 2/1/1861، أصبح وليام الأب البالغ من العمر (64) سنة ملكاً، ومن ثم أصبح فريدريك ولياً للعهد. وأدى تزايد مناصرة فريدريك وأمه وزوجته للتوجهات الليبرالية، إلى زيادة الآمال في دخول بروسيا إلى عهد جديد، يتم فيه تطبيق أفكار الأمير وطروحاته. وتشجع البرلمان لتلك الطروحات. ففي أيلول/سبتمبر عام 1862، أعلن البرلمان البروسي، الذي أصبح يسيطر عليه الليبراليون، معارضته للسياسات المحافظة. ووجد الملك نفسه أمام توجه عائلي وبرلماني للسير على الطريق الليبرالي، وأن من شأن ذلك خذلان التوجه المحافظ الذي كان جزءاً منه أيام والده. وبعد تردد، لم يجد الملك أمامه سوى طرح تنازله عن الملك لولي عهده فريدريك.
ورفض الإبن تنازل الأب، اعتقاداً منه أن حدوث مثل هذه المعارضة لأول مرة على النحوي الذي حدثت فيه، سببت صدمة وردة فعل للأب. وقدر فريدريك، أن الأفضل أن يحدث الإصلاح والتطور بالتدريج. لكن الذي حدث أن الملك عين بسمارك رئيساً للوزراء في 23/9/1862، وتبين أنه ملكي أكثر من الملك، وأنه يكفر بالليبرالية والأفكار التحررية التي تستدعي الحوار والنقاش، والوصول إلى أغلبيات لأخذ القرار. وخلال فترة قصيرة، استطاع بسمارك، احتواء الملك المريض، وتطبيق سياساته وتوجهاته المحافظة بالقوة، بعد أن تمكن من إحداث فجوة بين الملك من ناحية والأمير ولي العهد وزوجته وأمه من ناحية أخرى. وتفاقمت الفجوة عندما أصبح الأمير ينتقد بالعلن سياسات بسمارك وتوجهاته، ويعلن أنها لا تناسب بروسيا وشعبها. وكانت أفضل الطرق لإبعاد الأمير عن السياسة الداخلية، هي تعيينه قائداً لأحد الجيوش، وخاض الأمير حروباً قاسية في مواجهة النمسا والدنمارك وفرنسا، رغم كرهه لهذه الحروب التي استدرجها بسمارك. وهكذا تمكن بسمارك من تحييد الأمير وشلّ فاعليته داخل الدولة. وعندما استخدم بسمارك القوة للوصول إلى توحيد ألمانيا عام 1871، وإعلان الملك ويليام امبراطوراً على ألمانيا الموحدة، جن جنون الأمير وزوجته من أسلوب الفرض والقهر والبطش، وأعلن أن الدم الألماني أغلى من أن يهدره بسمارك، وأنه كان من السهولة بمكان تحقيق الوحدة بالتوافق وليس بالحديد والدم الذي أصبح شعاراً لبسمارك.
وانتظر الشعب الألماني الذي يتوق إلى الملكية الدستورية والنظام البرلماني، إلى حين تولي فريدريك الملك، لكن الأب وليام عاش أطول مما يجب، ومات عام 1888، وعمره (90) سنة. وفي 9/3/1888، أصبح الأمير صاحب الفكر التحرري، امبراطوراً على ألمانيا وعمرة (56) سنة. وفي حفل تتويجه الذي حضره ملوك وملكات أوروبا، ومنهم ملكة بريطانيا وملك بلجيكا، فك الملك عن بزته العسكرية، وسام النسر الذي كان قد حصل عليه كقائد جيش انتصر في معاركه، وعلقه على صدر زوجته فيكتوريا، تأكيداً لاعتزازه بأن تصبح الأميرة، امبراطورة لألمانيا بجانبه. وبادر الملك الإمبراطور عند جلوسه على عرش ألمانيا، بالخطوات التي تحقق ما آمن به وعاش من أجله. فأصدر مرسوماً بعزل وزير الداخلية الذي ثبت له تدخله في الانتخابات النيابية التي كانت قد أجريت، كما كتب مرسوماً تفصيلياً يحدد فيه صلاحيات رئيس الوزراء، كخطوة للتخلص من بسمارك، وصلاحيات الملك، ليجعل من ألمانيا ملكية دستورية، ويقدمه للبرلمان لإقراره كجزء من الدستور، لكن ما أراده الملك لم يشهد نور التطبيق، لأن الأقدار كانت بالمرصاد، إذ تبين أن المرض الذي يعاني منه الرجل، هو سرطان الحنجرة (Cancer of the Larynx). وعندما علم بذلك قال، ودموعه تعبر عن مدى عمق حزنه، 'يا إلهي، كنت أتمنى لو أمهلتني، لأحقق لوطني الذي أحببت، ألمانيا، ما عشت وعانيت من أجله'. وساءت حالة الملك، وبعد ثلاثة شهور وتسعة أيام يوماً من تتويجه، مات فريدريك نتيجة خطأ طبي في 5/2/1888. وهكذا كانت أقدار السماء أقوى من إرادة البشر وتطلعاتهم.
وتولى الملك بعده ابنه ويلهالم الذي كان قد بلغ (29) عاماً. واكتشفت أمه فيكتوريا، أن ابنها كان قد وقع فريسة لبسمارك وتوجهاته، وزرع في عقله منطقه ومنهجه الذي يقوم على الحديد والدم، وذلك بمعرفة جده وليام ومباركته. وانطلق الابن في حكمه من مبدأ سيطر عليه وهو، أن السلطان في الداخل والتأثير في الخارج، لا يحققه سوى استخدام القوة، والقوة المفرطة عند الاقتضاء، وأن استخدام وسائل الإعلام وتسخير الأقلام لتمجيد الملك والإعلاء من شأنه، يزيد من هيبته، ويعكس للخارج مدى حب الشعب لملكهم، فيزداد تأثيره، وأن ذلك يقتضي أن تكون الحريات ضمن حدود لا تسمح بنقد الملك أو أسرته، ولا الطعن بسياسات الحكم وتوجهاته.
وفات الملك، أن مفاهيم الحكم المطلق في نهاية القرن التاسع عشر، وأفكار بسمارك، قد تجاوزها الزمن. وحاولت الأم الواعية مع ابنها، إلا أنها لم تنجح، وحزنت كثيراً على خروج ابنها على نهج والده وقالت، 'إن ولدي يعاند التاريخ ويريد وقف تطوره'. وصدقت مخاوف الأم على ولدها الإمبراطور، إذ قاده منهجه البسماركي، إلى أن يصبح مغامراً ومقامراً بعرش أسرة الهوهنزوليرن، أعرق الأسر المالكة في التاريخ، من أجل سلطانه ونفوذه، مما جعله آخر ملوك هذه الأسرة، بعد أن ثار عليه الشعب الألماني عام 1918، وطرده مع أسرته خارج ألمانيا، بموجب قانون تم إصداره لهذه الغاية.
وهكذا فوتت إغراءات السلطة على ألمانيا، تطوراً دستورياً مبكراَ، كان يمكن أن يجعلها تتجنب ما لحق بها وبأبنائها من ويلات. ووفقاً لعديد من المؤرخين لتلك الحقبة من الزمن، ومنهم: (Michael Balfour في كتابه القيصر وزمانه، و Lamar Cecil في كتابه ويلهالم الثاني أميراً وإمبراطوراً، و Egon Corti في كتابه الملكة فيكتوريا وابنتها امبراطورة فريدريك الألماني)، فقد كان للإمبراطور فريدريك تاريخ طويل مع الليبرالية، وكان شديد الإعجاب بدور الأمير ألبرت وزوجته الملكة فيكتوريا في حكم بريطانيا، وكانت خطط هذا الامبراطور وزوجته الانجليزية، الاقتداء بهما وتطبيق النهج الإنجليزي في الحكم، وجعل البرلمان المنتخب مباشرة من الشعب، هو صاحب الولاية الأساسي في الدوله. ويضيف هؤلاء المؤرخون، لو قدر لوالد فريدريك الذي عاش (90) عاماً أن يموت أبكر، أو قدر لفريدريك أن يعيش أطول، لكانت ألمانيا قد سارت على نهج أكثر حكمة، وجنبت العالم حربين عالميتين حصدتا أرواح الملايين من بني الإنسان، لكن موت فريدريك المبكر، ترك للمهووسين بالسلطة ميدان الحكم، وطبقوا سياسات تقوم على نهج الحكم الفردي المطلق، رغم وجود الدساتير، مع أن دول أوروبا أخذت بالتخلص من هذا النهج تباعاً بعد الربيع الأوروبي، الذي اجتاح عواصم دول القارة، وأودى في النهاية بعروش وزوال ممالك.
ا .د - محمد الحموري