طوق نجاة الأردن
أكتب إليكم من الرياض، بعد الإنتهاء من ورشة عمل تحديث وتفعيل الإستراتيجية العمرانية الوطنية المعتمدة للمملكة العربية السعودية، تلك الورشة التي توجت جهود فريق عمل دولي لمساعدة أشقاءنا السعوديين في إنجاز هذا العمل التخطيطي الكبير. لقد أدركت السعودية منذ عقود من الزمن أن لا بد من وضع خطة إستراتيجية لإدارة التطور العمراني على أراضيها الشاسعة، فقد قامت وزارة الشئون البلدية والقروية بإعداد الإستراتيجية العمرانية الوطنية والتي اعتمدت بقرار من مجلس الوزراء رقم 127 في العام 2001م، وتعنى هذه الدراسة بتحقيق التنمية العمرانية المتوازنة بين وضمن مناطق المملكة، ويمتد الأفق الزمني لهذه الإستراتيجية ما بين (1425-1450هـ) 2004-2028م وتمثلت أهم مخرجاتها بتفعيل التنمية الشاملة بين مناطق المملكة وداخلها من خلال نشر العمران والبنية التحتية في المناطق المختلفة وعددها (13) منطقة مثل الرياض وحائل وعسير وجازان ...الخ وفقا لتصور يضمن أكبر قدر ممكن لتحقيق التنمية المتوازنة، وعلى أساس أن العمران هو الوعاء المكاني الذي يحتوي العناصر اللازمة للسكن والإنتاج. ماذا لو أن المملكة لم تتصدى لهذه القضية في الوقت المناسب، الجواب هو أن الناس كانت ستنتشر في المدن الكبيرة بحثاً عن الرزق والحياة الأفضل فتصبح العاصمة جاذبة للسكان، وتصبح الأطراف طاردة لهم، فتختل المعادلة التنموية وتدخل المملكة في فوضى هي أقرب إلى الإنتحار الإقتصادي. ولا بد أن أدعوا القاريء ان لا يتعجل في الإنسحاب من تكملة هذه السطور على أساس أن لا مجال للمقارنة بين السعودية والأردن، حيث تحظى الأولى بثروات طبيعية هائلة تجعلها قادرة على وضع الخطط على الورق وتنفيذها على أرض الواقع كونها تمتلك الموارد المالية اللازمة لذلك، وعلى أساس أننا نحن في الأردن لا نمتلك ترف التخطيط الإستراتيجي لأننا نكاد لا نقطع عقداً من الزمن حتى نتفاجأ بسيل من الهجرات البشرية التي لا تقدر على مواجهتها أقوى الدول من الناحية الإقتصادية، فهل يتناقض التخطيط العمراني الإستراتيجي مع إقتصاد إدارة الأزمات الذي تنتهجة الحكومات الأردنية المتعاقبة، فدعونا نعود إلى ما هو متبع في الدول الأخرى حتى نجيب على هذا السؤال الهام. لقد قامت الإستراتيجية العمرانية الوطنية للسعودية بوضع إطار هيكلي لما ستكون عليه المملكة خلال مدة الخطة حيث قسَمت المدن الى ثلاثة أنواع من مراكز النمو (وطنية) على مستوى المملكة و (إقليمية) و (محلية) وتم إعتماد نموذج محدد لكل منطقة والتي كان أغلبها نموذج (محاور التنمية) التي تربط مراكز النمو بعضها ببعض من خلال شبكة من الطرق تمتد على طولها المشاريع الإقتصادية المختلفة. إن الإتفاق على هذا المبدأ التخطيطي أرسى القاعدة الأساسية التي مكنت التخطيط القطاعي من اللحاق بالتخطيط المكاني، فقد أصبح من الممكن وضع خطة للنقل واخرى للتعليم وخطط أخرى في مجالات الصحة وغيرها، لكي لا تتضطر الوزرات للحاق بالتحضر، بل تسبقه كأن يتم التخطيط المسبق لبناء عدد معين من المستشفيات والمدارس في المنطقة الشرقية مثلاً لأن المُخطط يعلم مسبقاً بأن الإنتاج الصناعي سيكون مركزاً في هذه المنطقة، مما يعني زيادة متوقعة لعدد السكان كرافد للقوى العاملة، ولكي تتحول هذه المنطقة الى بيئة صالحة للعيش، فعلى المُخطط أن يعززها بخدمات البنية التحتية والفوقية اللازمة كمنطقة جذب سكاني معروفة منذ البداية ومخطط لها أن تصبح مركز نمو وطني، لتشكل رافعة إقتصادية للمنطقة، أو كما يطلق عليه البعض (منطقة تنموية) مرتبطة بالمناطق الحضرية وليست منفصلة عنها. وقد يظن البعض أن إعتماد هذه الخطة الإستراتيجية قد أتى بسهوله، وما على الجميع إلا التطبيق لأنه، كما سبق وذكرنا، الموارد المالية متوفرة. الجواب على ذلك هو أن السعودية كغيرها من الدول قد خاضت سجالات طويلة شكك فيها البعض من نجاعة التخطيط الإستراتيجي برمته، لا بل أن البعض قد سلوا سيوفهم لمحاربة هذا الفكر، وما زال بعضهم يضعون العصي في دواليب التطبيق العملي للإستراتيجة العمرانية كما حدث في منطقة جازان على سبيل المثال، وأظهرت بعض المؤشرات التي توصلنا اليها أثناء تحديث الإستراتيجية بأن هناك تجاوز في التمركز السكاني عما هو مخطط له، حيث كان من المفترض أن يكون عدد سكان مدينة الرياض (4809349) حوالي أربعة ملايين وثمانية وتسعة آلاف نسمة على أساس أن نسبة النمو السكاني المفترضة مع بداية الخطة هي 3% بينما وصل عدد السكان الى (5254560) حوالي خمسة ملايين وربع المليون نسمة في العام 2010، أي أن نسبة النمو الحقيقية بلغت أكثر من 8% فما الذي جعل الأمور تفلت من عقالها بحيث أصبحت الرياض مدينة مكتظة بالسكان تؤرقها شبكة النقل على الطرقات مع ما يضاف الى ذلك من مشاكل في قدرة إستيعاب البنية التحتية لمتطلبات هذا النمو السكاني المنفلت، وعلينا أن نتصور الى ماذا كانت ستؤول اليه الأمور لو لم يتم التخطيط لتنمية المناطق الأخرى، فهل كانت الرياض ستستوعب ثلث عدد سكان المملكة كما هو الحال في عمّان، وهل كانت الأمور ستصل الى ما وصلنا اليه لو كان لدينا إستراتيجية عمرانية أردنية، وسأحاول الإجابة على ذلك من خلال مقاربة مع خبرة الدول الأخرى في هذا المجال. لقد شهدت ورشة عمل تحديث الإستراتيجية عدة جلسات خصص أحدها للإطلاع على تجربة كوريا الجنوبية في مجال التخطيط المكاني، حيث تبين بأن الدولة إستطاعت ان تنقل الإقتصاد الوطني الى مصاف الدول الكبرى كاحد أعضاء نادي دول العشرين G20 بعد أن كانت تحت الإستعمار الياباني 1910-1945 فقد شرعت الحكومة بتنفيذ خطة تنمية إقتصادية منذ العام 1962 تبعتها خطة تنمية عمرانية منذ العام 1970 حيث إرتفع متوسط دخل الفرد الى (20759) حوالي واحد وعشرين ألف دولار بالسنة، أي حوالي (1730) دولار بالشهر مقارنة بحوالي (300) دولار بالشهر للمواطن الأردني. واهم من يظن بأنه بالإمكان وضع خطط إقتصادية تعمل على تحسين دخل المواطن بدون تحضير الوعاء المكاني الذي يحتضن هذه الخطط، حيث تشير خبرات الدول المشابهة للأردن من حيث المساحة والثروات الطبيعية مثل كوريا الجنوبية والنمسا وغيرها، بأن الإستراتيجية العمرانية هي ضرورة وليس ترف، وقد كان الأردن في الطريق اليها، حينما اعتمدت الدولة على التخطيط التنموي في الستينات والسبعينات حيث تم إصدار قانون ينظم التنمية في وادي الأردن، وتم إنشاء مؤسسة المدن الصناعية، ومؤسسة الموانيء وسلطة الطيران المدني، وشركات تعدين الفوسفات والبوتاس والكهرباء وسلطة المياه، إلا أن العودة عن هذا المسار برعاية رسمية منذ عشر سنوات تقريبا قد أدى الى تشويه حقيقي في المسيرة التنموية فأصبحت أراضي المملكة موطناً للتجارب، فتم خلق مناطق سميت جزافاً بالتنموية، وهي ليست كذلك، تنافس البلديات على رزقها، وصيغت قوانين وانظمة ليس لها قالب مكاني، والدليل على ذلك هو المبدأ البسيط المعتمد في المانيا والنمسا وكوريا والسعودية وغيرها والقاضي بأن تكون المدينة هي مركز النمو وأن يتم إحاطتها بالمناطق الصناعية أو الزراعية أو اللوجستية حسب الميزة النسبية لكل منطقة. أي منطق هذا يتم فيه تقسيم الأردن الى أقليم عرضية (شمال – وسط – جنوب) في حين ان التقسيم الطبيعي للاردن هو طولي (أغوار- مرتفعات شرقية- صحراء) وكيف لمجلس الإقليم أن يناقش خطة الطواريء بحيث يتحدث رئيس بلدية السلط عن تراكم الثلوج بينما يبحث رئيس بلدية سويمة عن حلول لمواجهة الذباب في نفس الفصل من السنة. إن المختص المراقب الى ما تشكل من خريطة تنموية في الأردن يدرك بأن البلد تغرق بفعل أفكار بعيدة كل البعد عن الممارسة التنموية الفضلى فهل يستقيم الوضع حينما نرى مدينة معان على سبيل المثال والموجودة الى الشرق من الطريق الصحراوي، وان يتم بناء جامعة الحسين الى الغرب من نفس الطريق، وأن تنشأ منطقة معان التنموية والمفصولة قانونيا ومكانياً عن البلدية وأن تقوم باعتماد إستراتيجية عمرانية تتناقض كلياً مع فكرة إعتماد مدينة معان كمركز نمو. إن هذا ضرب من التخريب وليس التطوير التنموي والذي يجب أن يتوقف فوراً، وأن يتم إلغاء قانون المناطق التنموية وقانون منطقة العقبة الإقتصادية الخاصة، ليعاد تشكيل الخريطة العمرانية للأردن من قبل فريق وزراي يترأسه رئيس الوزراء المكلف من قبل جلالة الملك بإعداد خطة إقتصادية لعشر سنوات قادمة معزز بفريق يضم خبراء في التخطيط الإقليمي والحضري، ووزارة النقل صاحبة الرؤية الإستراتيجية لمنظومة النقل العام ورؤساء البلديات المنتخبين وبعض النواب. لقد سبق وحذرنا من خطورة النهج الذي تسير عليه الدولة الأردنية، والقاضي بالخلط بين مفهوم الإدارة المحلية (البلديات) وبين الحكم المحلي الذي تمارسه المحافظات والدوائر والذي تعزز بالإقتراح المشوه الذي تقدمت به اللجنة الوزارية التي ترأسها وزير الداخلية لمناقشة موضوع اللامركزية، حيث يحمل في أحشاءه جنين معاق سمي قبل أن يولد بنظام اللامركزية يوضع تحت سقف المحافظ ووزارة الداخلية، وطفل آخر كسيح معروف بقانون البلديات حيث سيؤدي في حال إقرارهما لا سمح الله من تربيط أرجل المريض الذي يحاول جاهداً أن يسبح الى شاطيء الأمان بدلا من مساعدته بطوق النجاة الذي يعفيه من الغرق المحتم. ولا تعجبون حينما أقول بأن الخبراء الأردنيين هم من يتصدرون إجتماعات التنمية في البلدان الأخرى، ففي الورشة المذكورة ترأس فريق الإعداد كبير مستشاري التخطيط الإقليمي بالأمم المتحدة/ البروفيسور سليمان أبو خرمه وهو خبير أردني، وعمل على التحديث الدكاترة كلالدة والنسور وهم خبراء أردنيين، ومثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي السيد فراس غرايبة وهو خبير أردني، وحضر من واشنطن الدكتور فؤاد ملكاوي ممثلاً عن البنك الدولي وهو خبير أردني، فهلا يتسع حضن الوطن لمثل هؤلاء لكي يضعوا البلد على المسار التنموي الصحيح، سؤال موجه إلى صاحب القرار، فيما لو تسنى له أن يعلم بمضموب هذا المقال.