المخابرات العامة مصدر السلطات في الأردن
معظم دساتير الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية تتضمن نصوص تشير إلى أن الأمة هي مصدر السلطات ومن هذه الأمة أو الشعب تستمد الشرعية سواء ما تعلق منها بنظام الحكم أو التشريع أو غيرها. والحقيقية أن الدول التي تلتزم فعلا وليس قولا فقط بهذه القاعدة الدستورية الراقية "الأمة أو الشعب هو مصدر السلطات" نادرا ما تشهد انقلابات أو ثورات أو عنف وعدم استقرار سياسي أو أمني حيث تتم عملية تداول السلطة بطرق سلمية ويبتعد العسكر عن حكم البلاد والعباد والتحكم بأعناق وأرزاق الناس . أما دوائر الأمن والمخابرات فهي تعمل في الساحة الخلفية وتحت إمرة وتوجيه وسيادة القانون وبتبعية تامة ومباشرة للسلطة التنفيذية ممثلة إما برئيس الدولة كما هو الحال في الأنظمة الرئاسية أو رئيس الحكومة في الأنظمة البرلمانية. دائرة المخابرات والأجهزة الأمنية في الدول الديمقراطية أجهزة ليست مرعبة وغير مخيفة للناس ومهمتها المحافظة على الأمن وحماية المجتمع من الأشرار والمجرمين وشذاذ الأفاق وممن يغسلون الأموال ويهددون العملية الديمقراطية والسلم المجتمعي . أما بالنسبة لواقع الحال في الأردن فإن القفرة"1" من المادة "24" من الفصل الثالث من الدستور الأردني تنص على أن الأمة هي مصدر السلطات وأن هذه السلطات تمارس من قبل السلطة التشريعية ممثلة بالملك ومجلس الأمة ، والسلطة التنفيذية مناطة بالملك ويمارسها نيابة عنه الوزراء ، والسلطة القضائية تتولاها المحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها حيث تصدر أحكامها باسم الملك . والحقيقة أن ممارسة هذه السلطات على الأرض لا تشير إلى تطبيق فعلي وحقيقي للقاعدة الدستورية بأن الأمة هي مصدر السلطات حتى وإن ظهر من الناحية الشكلية للناس اجتماعات مجلس الأمة بغرفتيه الأعيان والنواب ومشاجرات بعض أعضاءه وقذفهم لبعضهم البعض بالأحذية وربما بالمسدسات وقنابل المولوتوف مستقبلا ، وكذلك قرارات السلطة التنفيذية ممثلة بالحكومة والدوائر التابعة لها حيث تبدوا أنها صاحبة سيادة وقرار وولاية عامة في إدارة شؤون البلاد الداخلية والخارجية . من جانب آخر فإن القضاء والسلطة القضائية هي ذاتها تعاني من تغول واختراق من قبل السلطة التنفيذية وخصوصا فيما يتصل بالمحاكم العسكرية ومحكمة أمن الدولة ونظرها في قضايا ينبغي أن تكون منظورة من محاكم مدنية. تأسيسا على ما ذكر واستنادا للمعطيات التي لا تخفى على كثير من المتابعين والناشطين فإن النفوذ والتغلغل الواسع والشامل والقوي لدائرة المخابرات العامة وبعض الأجهزة الأمنية في شتى السلطات وتحديدا في السلطتين التشريعية والتنفيذية وهيمنتها على نتائج ومخرجات التصويت والقرارات التي تتخذها هاتين السلطتين يجعل من القاعدة الدستورية الأمة مصدر السلطات قاعدة مفرغة من المضمون ونصا لا محتوى فيه ولا روح . فدائرة المخابرات العامة باعتراف أحد رؤسائها السابقين زورت الانتخابات لمرات كثيرة وقد أشار من تولى إدارتها سابقا بأنه هو من نصب 81 نائبا في مجلس النواب وذلك قبل أن ينفضح أمره بغسيل الأموال كما وسبقه في ذلك زميل آخر بتهم يندى لها جبين أكثر مخلوقات الله بدائية. دائرة المخابرات العامة وبعض الأجهزة الأمنية الأخرى تشكل المحور الذي يدور حوله معظم العمل السياسي والإداري في الأردن فهي تنسب بتعيين بعض الوزراء المتعاونين معها أو المنتسبين لها كما وأن موافقتها ومصادقتها الأمنية شرط أساسي لتعيين وزراء ليسوا من انتقائها ، وهي التي تعين أو توافق على تعيين معظم القيادات الإدارية العليا في الوزارات والدوائر الحكومية (كما أشارت دراسة علمية حديثة بهذا الشأن) ،كما أن الدائرة نفسها لها الصلاحيات في الاعتراض (Veto ) ومنع تعيين أي عضو هيئة تدريس في الجامعات الحكومية ، وهي أيضا التي تتدخل بشكل مباشر في تعيين رؤساء الجامعات ونوابهم والعمداء وغيرهم في الجامعات الرسمية ناهيك عن تدخلها في الانتخابات الطلابية في الجامعات ، كما وأن المخابرات العامة تتدخل في التعيينات في القطاع الخاص . من جانب آخر كيف يمكن أن يكون الشعب مصدرا للسلطات ودائرة المخابرات العامة تتدخل في الانتخابات جهارا نهارا فهذا وزير الداخلية الأسبق عيد الفايز في أثناء شهادته في قضية محمد الذهبي يقول بأنه عام 2007 أمر بصرف 500 ألف دينار من المخصصات للانتخابات لصالح دائرة المخابرات العامة والسؤال ما دخل دائرة المخابرات بالانتخابات لولا أن ذلك جاءا للتحكم بنتيجتها وتزوير إرادة الشعب وإخراجها بالشكل والمضمون والمواصفات التي تريدها دائرة المخابرات العامة وبالتالي تصبح هي مصدر السلطات وهي صاحبة القول الفصل وبها يأتمر النواب الذين يدينون للدائرة بهذا الفضل . أما دور الدائرة وهيمنتها على السلطة التنفيذية فهو لا يخفى على أحد وقد سمعنا غير مرة من رؤساء حكومات يتحدثون عن وجود ثلاث حكومات في الأردن وفي مقدمتها حكومة المخابرات العامة وهي الحكومة الأقوى إضافة إلى حكومة الديوان والحكومة العادية والبادية للعيان والتي تتحمل الهجوم والانتقاد اللاذع وتتحمل المسائلة القانونية عن إدارتها في الوقت الذي تهيمن عليها دائرة المخابرات العامة عبر تقاريرها واستشاراتها ومقترحاتها في القضايا الأساسية والتي تقدمها للملك. ويكفي أن نشير هنا إلى ما تداولته التقارير والوكالات الصحفية عن دراسة نفذتها دائرة المخابرات مؤخرا عن الصوت الواحد وقد "حذرت الدائرة من تغيير الصوت الواحد لأن ذلك يعني حصول الحركة الإسلامية على الأغلبية النيابية وهو ما يعد خطا أحمر سيفضي إلى تكليف الحركة الإسلامية تشكيل حكومة جديدة". دائرة المخابرات العامة تفاوض جبهة العمل الإسلامي بخصوص قانون الانتخاب وكأن الحكومة الحاصلة اسميا على ثقة ممثلي الشعب غائبة فأين هي قاعدة الأمة مصدر السلطات؟ دائرة المخابرات العامة الأصل بها أن تكون أحدى الدوائر التابعة لوزير الداخلية تأتمر بأمره ولا تتجاوز دورها الأمني الذي نحترمه . هذه الدائرة أصبحت متعاظمة في قوتها وهي واجهة النظام ودرعه الواقي من الديمقراطية وأصبح دورها لا يساهم في دعم الإصلاح السياسي واستقرار الوطن . هذه الدائرة هي دائرة أمنية بامتياز وينبغي أن لا تتجاوز هذا الدور وفي حال استمرار تدخلاتها في صلب الحياة السياسية برلمانية أو تنفيذية أو إدارية فإن تبعات هذا التدخل السافر ستكون وبالا على الوطن وعلى النظام السياسي برمته وسيزداد الاحتقان والسخط ولن تفلح وسائل القمع والتحكم بمصائر الناس وأرزاقهم ومستقبلهم في تخويف الناس وإسكاتهم وها نحن نرى بأم أعييننا كيف تفشل الدروع والمدافع والطائرات في كبت إرادة الجماهير . استقرار النظام السياسي في الأردن وتحقيق الأمن مرهون بإرادة النظام في إخضاع جهاز المخابرات العامة للسلطة التنفيذية وقيادته ينبغي أن تكون مرتبطة بوزير الداخلية ورئيس الحكومة، وتدخلات الدائرة يجب أن تتوقف في السلطتين التشريعية والتنفيذية . مطلوب أن تعود هذه الدائرة لممارسة دورها الأمني فقط والعدول عن ممارسة أي دور سياسي أو تفاوضي مع أي جهة أو طرف سياسي كما أنه ينبغي أن لا تتدخل في إدارة المؤسسات والتعيينات القيادية فيها فالدستور والقوانين وأنظمة العمل كلها تؤكد على أن الأردنيين متساوين أمام القانون وأن الحصول على العمل يحب أن يستند للكفاءة والجدارة.الشعب الأردني هو مصدر السلطات حسب الدستور الأردني وهذه السلطات ينبغي أن تعود إليه وينبغي أن تتخلى دائرة المخابرات العامة عن سياسة وضع اليد على سلطات الأمة .
الأستاذ الدكتور أنيس خصاونة