الاعلام الاردني بين الرؤية الملكية والواقع
يشهد الاردن شأنه شأن العديد من دول العالم الثالث بعد عام 1989 بداية مرحلة سياسية جديدة تمثلت في تبني صاحب القرار السياسي جلالة الملك عبدالله الثاني خيار الديمقراطية او التحول الديمقراطي وهو ما ترتب عليه العديد من التطورات والتحولات في المجالات السياسية والحريات في التعبير والفكر والرأي وحرية الصحافة والاعلام الذي يدافع عن هذا الرأي، ولانه لا يمكن دراسة الاعلام منفصلا عن النظم السياسية والحديث عن الاردن لا يكتمل دون الحديث عن الاعلام ومؤسساته ووسائله وثورة المعلومات التي اختصرت البعد الزمني للوصول الى المعلومة ومعرفتها وهو ما ساعد على هدم حواجز المعرفة التقليدية التي كانت مقصورة على النخب السياسية والاقتصادية بحيث اصبحت المعرفة اليوم متاحة للجميع.
لقد سبق جلالته الصحفيين انفسهم في ادراك اهمية الاعلام في المجتمع وضرورة ايجاد حاضنة سياسية للمنظومة الاعلامية من القوانين والسياسات المتعلقة بحريات الاعلام ووسائله في وقت يعيش الاردن فيه مرحلة تسمح بتطبيق هذه القواعد الدستورية والاصلاحية بعيدا عن "الامبريالية الاعلامية "ومنح الاعلام حرية تداول المعلومات حتى لا يظل المواطن يبحث عن المعلومة من مصادر اخرى. جلالته ادرك ويدرك بان الاردن بحاجة الى اعلام حر محترف يسعى الى تسريع عملية الديمقراطية وازالة العثرات التي تواجهها وتعيق تقدمها ويعلم جلالته ان الحكومة لاعب اساسي على المسرح الاعلامي والسياسي ومن حقها ان يكون لها منابر اعلامية ولكن دون ان يؤدي هذا الحق الى مصادرة حقوق الآخرين في التعبير فأرتاى ضرورة دخول لاعبين اخرين واطراف اخرى للمشهد الاعلامي فابدى توجيهاته السامية لاحداث التغيير المطلوب في قوانين المطبوعات والنشر لتتلائم وروح العصر والمرحلة وتسمح بتعدد قنوات ووسائل الاعلام لتصبح عامة وخاصة وتشكل في النهاية الاعلام الوطني الاردني .
صحيح انه لا يمكن ان ندعي اليوم ان الحريات الاعلامية والسياسية في الاردن وصلت اعلى المراتب ولكن يستطيع المراقب والمتابع للحالة الاردنية الاقرار بجدية التوجهات والاجراءات الرسمية لتوفير هذه الحريات عبر تشريعات خاصة بالاصلاح قطعت شوطا بعيدا ولا تزال بحاجة الى المضي قدما برعاية ملكية سامية وصولا الى رفع سقف الحريات الاعلامية ليكون اداة لخدمة الوطن والمواطن ورافعة للاقتصاد الوطني وسياسة تستخدم في الرقابة الشعبية والحوار وتنموية تسهم في التطوير والتحضر والتحديث والتقدم ومحاربة التخلف ومواكبة النهوض الاجتماعي ، ولأن الاعلام كذلك فقد لاقى دعما ملكيا لم يسبق ان شهده من قبل تجسد في دعوة جلالة الملك بأن تكون السماء سقف حرية الاعلام في الاردن تعزيزا لمسيرة الاعلام وتجذيرا لثقافة التعددية وتكريسا لنهج الديمقراطية .
ومن هذا المنطلق جاءت الرؤية الملكية للاعلام الذي يريده جلالته هادفا الى بناء نظام اعلامي اردني حديث يشكل ركيزة لتحقيق التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تتماشى وسياسة الانفتاح الاقتصادي والسياسي والثقافي التي ينتهجها الاردن وتواكب التطورات الحديثة في العالم ، الرؤية الملكية للاعلام تأخذ في الاعتبار تطوير رؤية جديدة للاعلام تأخذ بروح العصر وتخدم اهداف الدولة وتعبر عن ضمير الوطن وهويته بكافة اطيافه وفئاته ، تعكس ارادته وتطلعاته ، تتيح لوسائل الاعلام القدرة على التنافس مع وسائل الاعلام الاخرى وهو ما يتطلب تشجيع التعددية واحترام الرأي الآخر وعرض وجهات النظر المختلفة ودعم استقلالية المؤسسات الاعلامية واداراتها واستقلال قراراتها لتمكينها من لعب دورها الرقابي في المجتمع في مناخ من الحرية المسؤولة والمهنية المتطورة .
كما تعني الارتقاء بالبعد المهني للعمل الاعلامي من خلال تطوير مواثيق الشرف الصحفي ومراجعة قوانين الاعلام والاستثمار الخاصة بالصحافة والاخذ بالمتغييرات الفنية والتقنية التي يشهدها العصر حتى تتمكن وسائل الاعلام من اداء دورها الوظيفي والاسهام في ترتيب اولويات المجتمع واهتماماته وبناء ثقافة مجتمعية تساعد على تنظيم حياة الناس .
هذه باختصار اهم ما تضمنته الرؤية الملكية للاعلام ولكن يبقى السؤال الى اي مدى تم الاخذ بهذه الرؤية وما تلاها من استراتيجية للاعلام اعتمدت على الرؤية الملكية ؟. لا زلنا للاسف الشديد نلاحظ ان القضية الاعلامية لا تزال تثير جدلا واسعا في الاوساط السياسية كما هي الاعلامية كونها لم تأت بعد بتصور واضح لمسيرة الاعلام الوطني ولم تتحقق بعد بصورة واضحة الرسالة الاعلامية الوطنية القادرة على تحقيق التوازن بين المصالح الوطنية والحريات وظل الاعلام الاردني في غالبيته امتدادا للاعلام الحكومي وذلك كنتيجة تراكمية للسياسات الاعلامية للمؤسسات العامة وشبه الحكومية ، في حين وبالعودة الى الرؤية الملكية للاعلام يتوجب على الاعلام ان يعكس اولا الانتماء الى الوطن، لكنه لا زال يعيش حالة من الفوضى امتدت الى المرتكزات الوطنية وغياب السياسة الاعلامية .
لا يمكن انكار مشاركة القطاع الخاص في الاستثمار الاعلامي وصناعة الصحافة ، بحيث فرخت الصحف اليومية والاسبوعية ، وتكاثرت المحطات الاذاعية وراح التسابق ولا اقول التنافس على الفضائيات يتزايد حتى اصبحت بالعشرات الا انها في غالبيتها لم تبتعد كثيرا عن الاسلوب التقليدي الخطابي وقلما الاخباري والتحليلي مبتعدة عن الرسالة الاعلامية التي ارادها جلالة الملك فأقتصرت غالبية برامجها ورسائلها على الترفيه من مسلسلات واغاني وطنية تعتقد ادارات هذه المؤسسات خطأ انها بذلك تسهم في اداء وظيفة التنشئة الوطنية لتغيب عن شاشاتها وميكروفوناتها البرامج الاقتصادية والسياسية الهادفة الا من رحم ربي بطريقة تقليدية لما تبثه منذ سنوات طويلة محطات الجزيرة والعربية وغيرها من المحطات المجاورة والعالمية ، اما الاذاعات التي لها رسالة عظيمة فاقتصر غالبية بثها على الاغاني والاتصالات من المواطنين لتتحول الى مقاسم لاستقبال مكالمات المستمعين ومحاولة عرضها احيانا على المسؤولين دون متابعة وهو ما يعني غياب الدور التنموي والرقابي لهذه الاذاعات ، اما الصحف فتعيش حالة من التخبط الاداري ما بين اغلاق البعض لفترات واقالة صحفيين في البعض الاخر الى الصراعات بين العاملين والادارات المعينة والخوف من التراجع امام الصحافة الالكترونية وشبكة التواصل الاجتماعي ، اما الصحف الاسبوعية فارتاحت وتوارت تقريبا عن الانظار بسبب حجب الاعلانات الحكومية عنها وهي الاخرى تعيش حالة المصاب بالسرطان يموت ببطء . اما الاعلام الالكتروني فانطلق الكثير منه محلقا في الفضاء بلا روابط مستثمرا الحريات بأبشع صورها وسمح لنفسه التعرض للاشخاص والتدخل في قضايا لا تخدم الوطن مما افقد هذا البعض مصداقيته في حين واصل البعض الاخر مسيرته في اطار الحريات المسؤولة ليتبوأ مكانة هامة بين وسائل الاعلام في ممارسة الدور الرقابي وكشف الكثير من قضايا الفساد ومتابعة العديد من القضايا الاخرى ليبرهن انه الاقوى اليوم بين اقرانه من الوسائل الاخرى .
لا يغيب عن البال ونحن نتحدث عن الاعلام التطرق الى المهنية والاعداد والتدريب والتخصص للاعلاميين وهو ما جاءت به الرؤية الملكية فأين هي مؤسساتنا الاعلامية من هذا؟ فاذا اخذنا مراكز اعداد الصحفيين والاعلاميين وهي هنا الجامعات بما فيها من كليات واقسام للاعلام نلمس ان المستوى الاكاديمي لا زال ضعيفا من حيث توفير الكوادر التدريسية والمدربين والمرافق اللازمة للتدريب اضف الى ذلك تولي البعض من غير المتخصصين في الاعلام تدريس واعداد وتخريج اعلاميي المستقبل ؟؟ لقد ساهمت هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي بنصيب كبير في تدويل الاعلام والنظر له بانه مهنة لا مهنة له فراحت تمنح رخص تدريس الاعلام لحاملي شهادات من تخصصات غير الاعلام من تخصصات العلوم السياسية والتربية وعلم الاجتماع بحجة " مجالات الاعلامية" وتعتمدهم كأعضاء هيئة تدريس، الامر الذي يسهم في وأد الطالب على مقعد الدراسة وهو ما يخالف بوضوح الرؤية الملكية في اعداد وتأهيل الصحفيين ، اضف الى ما سبق الطريقة والاسلوب التي يتم بها تعيين مديري المؤسسات الاعلامية ، القائمة على المعرفة والنسب والواسطة في كثير من الاحيان دون مراعاة للاحقية المهنية والتخصص الاعلامي والخبرات العملية ، فليس المطلوب من الاعلام الرسمي وشبه الرسمي تغيير مديرين ، بل ان يتم تحديد حجم مطالبة الدولة منه وتقديم المتطلبات الاساسية والضرورية من استقلالية سياسية منضبطة وتمويل وتأهيل ، مطلوب مسؤول لتصحيح وانقاذ المسار وتقديم العون يتناسب ويتلائم مع رؤية جلالة الملك للاعلام ، لا مديرين يرتجفون خوفا على كراسيهم والقابهم والبقاء في دائرة الضوء حتى ولو على حساب المهنية والاستقلالية والشفافية وخدمة الوطن والمواطن ...
نعم نحن بحاجة وقبل البدء بالمشروع النهضوي الملكي للاعلام التخلص من المرتجفين التابعين الذين لم يتلقوا بعد الرسالة الملكية يظنون ان المحافظة على الماضي هو سر النجاح ، بحاجة الى اعلاميين قادة فكر مؤمنين بحتمية التغيير والانطلاق في الفضاء الرحب وفقا لرؤية ملكية وارادة سياسية تضمن الحرية المسؤلة في الحوار وطرح القضايا الوطنية ، قادة يؤمنون ان الاعلام له وظيفة خدمة النظام السياسي والاقتصادي ونقل التراث ، كما لابد من تشديد المراقبة على الجامعات وكليات الاعلام وعملية الاعداد والتركيز على التخصصات الاعلامية لاعضاء الهيئة التدريسية فيها لان الجامعات هي الحاضنة التي يتم فيها تفريخ ابناء مهنة المتاعب .
واخيرا في نظرة فاحصة للرؤية الملكية للاعلام الاردني والواقع الاعلامي نجد ان هناك فرقا شاسعا ما بين الرؤية والواقع وان جلالته سابق للعصر يحض على تعزيز الحريات وترسيخ مبدأ الشفافية والمهنية بينما لا زال الكثير من قادة الاعلام ومؤسساته مشغولا في قضايا سطحية لا تغني ولا تسمن من جوع وهو ما يستدعي احداث التغيير الواسع ليطال كل مؤسساتنا الاعلامية والتدريسية والتدريبية لنلحق بجلالته ونعمل معه على تحقيق رؤيته السامية لان العلة في الاعلام نفسه لا في تشريعاته وقوانينه.