لعم للتطبيع
أحيانا، تترادف الكلمات فيصبح لها أكثر من معنى، ما يجعلني في حيرة من أمري. حينها، لا أستطيع التوفيق بينها، خاصة إذا استفزتك كلمة فيها وقع داخل النفس، وتثير المشاعر بالدلالات التي تحملها؛ فما بالك بالأفعال التي يقوم بها البعض؟! عندها، تنتقل إلى حالة من الصدمة والغموض، مستنكرا ما يحدث. كيف لا، وأنت ترى أن الفعل يتناقض مع القول، فتتلون الوجوه وتتفاجأ بالتناقضات!
هنا أقف أمام كلمة "التطبيع" التي لا أستطيع أن أجد لها معنى حقيقيا، يضيق الفجوة بين القول والفعل، وبين ما يظهر أمام العيان وما يحدث في الخفاء. فقد أصبحت هذه الكلمة مثل العباءة؛ تستر ملابس قد تكون فاضحة، أو ربما جسدا مليئا بالعيوب.
كانت زوجتي قد أقنعتني بأسلوبها، مع بداية فصل الصيف، بتغيير ملامح البيت، وصيانته ودهان الغرف والجدران. وهي متطلبات ضرورية بعد ما أحدثته العوامل الجوية في المنزل من تشققات ورطوبة.
اتخاذ القرار لم يكن سهلا في أمور تحتاج إلى موازنة ربما تكون غير متوفرة، ما يستدعي تغيير قناعات بعمليات "زن" متواصل، والزن له مفعوله أقوى من السحر في بعض الأحيان.
المهم أنني تقبلت التغيير عن قناعة بضرورة إضفاء شكل جديد للبيت، فيكون مناسبا ومتناسقا، يلبي رغاباتنا أولا، ومن ثم الآخرين؛ فهل يعقل أن لا يكون البيت جميلا إذا حضر الضيوف والمغتربون أو أقارب الزوجة، ولاسيما أهلها؟!
تدخل الآن في مرحلة التفاوض مع الذين يتقنون أشغالهم في هذا المجال، لاختيار الألوان والنوعية، وتحديد التفاصيل المالية الأخرى. لقد بسط لي كل المزايا الملائمة للجدران وتصديها لحالات العفن والرطوبة. ونحن الآن في مرحلة جديدة من التطور، تحتاج إلى تزيين، والخروج عن التقليد إلى أشكال أكثر جاذبية.
كانت المفاوضات مباشرة بعيدة عن وسائل الاتصال، حتى يكون المجال أكثر اقناعاً. لم يترك "الخبير" الوقت لي حتى أقنعني بـ"التطبيع"، لأنه الأكثر مقاومة، ويغطي كل العيوب التي تظهر في الجدران. الآن، أنا مضطر للتطبيع، كأسهل طريقة للطلاء.
لم أخرج من منزلي، ولم أذهب إلى أي مكان آخر، حتى أسير بهذا الأسلوب! في أحيان كثيرة، لست مضطراً أن تذهب إلى مكان غير مرغوب فيه لتكون مطبعاً. وهل ننسى أن التطبيع يلتصق على جدراننا وفي داخل بيوتنا؟!
فقد تفتحت وأنا طفل عندما كان أهل حارتي الذين كانوا يتجمعون في عدد من البيوت لقضاء سهرتهم، يفضلون سماع نشرة أخبار السابعة والنصف على "التلفزيون الاسرائيلي" باللغة العربية، لاعتقادهم أن هذه الأخبار أكثر دقة ومصداقية، وهم لم يصحوا بعد من نكسة الأمة العربية والتضليل الإعلامي والكذب الذي نال منهم، عندما سمعوا يومها أن مئات الطائرات الإسرائيلية قد تم تدميرها في المطارات، وأن الزحف العربي إلى تل أبيب لن يكون أكثر من ساعات. وتهيأ الناس للنصر، قبل أن تنكشف الكذبة الإعلامية الكبيرة. اكتشف الناس أنهم تعرضوا للتضليل؛ كانت الخديعة وكانت النكسة الكبرى، فهل يمكن أن تبقى الثقة مستمرة بالإعلام؟
نسيت الجماهير "التلفزيون الإسرائيلي" بفضل انتشار الفضائيات. إلا أن صديقي اضطر أن يعيد البحث عن شيفرة التشغيل لمشاهدة مباريات كأس العالم على القناة الإسرائيلية، وبحيث يشاهد الصورة من دون تعليق، مازجاً بينها وبين التعليق الإذاعي.
لم تعد جدران البيت تلتصق بالتطبيع، لقد ألغينا كل المحرمات، وأصبح التطبيع في منازلنا وفي خيمنا وعلى ظهور لاجئينا الذين يتلقون مساعدات على الحدود من الجانب الإسرائيلي تعاطفاً معهم من ويلات ذوي القربى.
أصبح التطبيع في دمائنا وأنفاسنا، ونحن نأكل حبات المانجا بسعر رخيص، ظانين أنها أجنبية أو مصدرها عربي، فيما تأتينا عبر الحدود.
أصبح التطبيع في فنادقنا وفي أماكننا السياحية التي يرتادها إسرائيليون بجوازات أجنبية. وأصبح التطبيع في مناهجنا المدرسية التي تغيرت لتتناسب مع العولمة الفكرية والتعليمية.
صديق لي، لا يتوانى عن الحديث عن مناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني، وأنا أؤيده في ذلك، فاجأني يوما بالحديث عن صديق له يراسل صحيفة إسرائيلية، ويتباهى بما يكتبه لها من مواضيع تناصر القضايا العربية.
اختلطت المقاومة بالتطبيع، وعادت الكلمات تؤرقني من جديد ولم تعد تتوافق معي.
فتر حماسي تجاه هذا الصديق، إلا أنه ظل متعلقا بأفكاره. لكني لا أعرف لماذا يقف ويتصدى لأشياء صغيرة، فيما هو يعرف أشياء كبيرة ويحاول أن ينكرها علينا؟ حاولت أن أثنيه عن أفكاره، ولم أخجل منه ناصحا إياه أن يبتعد عن خداع الناس، فالحية لا تبدل الحليب إلا سما.
العدو الصهيوني يرفض التطبيع معنا، ونحن نتهاوى إلى الأسفل. لقد نقل في بث حي ومباشر جميع مباريات كأس العالم المقامة حاليا في البرازيل، ولكن تلفزيونه أصاب جماهيرنا العربية بخيبة أمل! عندما حجب نقل مباراة الفريق العربي الجزائر -الذي تعاطف معه الشارع العربي- مع الفريق الألماني؛ يا لخيبتنا!
نعم، تحمل كلمة التطبيع معاني كثيرة، يختلط بعضها ببعض، فلا نعرف ما يلتصق بجدراننا،فتعددت المفاهيم وخرجت بعضها عن مسارها الصحيح، لكن ما لا يحتمل الشك أن العدو الأوحد لنا تجتمع عليه كل الكلمات والمعاني، والتي تجعلني أقول: "لا للتطبيع". - See more at: http://www.ammonnews.net/article.aspx?articleno=198771#sthash.xKgfQwkV.dpuf