التاريخ يعيد نفسه.. والمجرم واحد
قبل أكثر من 30 عاما، وتحديدا في العام 1982، شن الاحتلال الإسرائيلي حربه الهمجية على لبنان التي انتهت بحصار بشع على بيروت، وخروج المقاومة الفلسطينية إلى منافي الأرض. خلف جيش الاحتلال الصهيوني حينها عشرات آلاف الشهداء والجرحى والمعاقين والأيتام، ومجازر يندى لها جبين البشرية، ودمارا واسعا لا تجيده سوى إسرائيل.
وما أشبه اليوم بالبارحة، وكأن التاريخ الدموي لدولة الاحتلال يعيد نفسه! فكما استغلت إسرائيل في العام 1982 دورة كأس العالم في إسبانيا، والتي شغلت الرأي العام الدولي عن متابعة جرائم إسرائيل في لبنان، ها هي تعيد اليوم الكرة، وتطلق عدوانها الهمجي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بالتزامن مع انشغال العالم ببطولة كأس العالم في البرازيل.
يفتح جيش الاحتلال الإسرائيلي اليوم نار جهنم على رأس الفلسطينيين في غزة، في حملة عدوانية واسعة، يستخدم فيها كل ما في جعبته ومخازنه من أسلحة فتاكة ومحرمة، جادت بها عليه الولايات المتحدة، فيما تواصل إسرائيل جرائمها في الضفة الغربية، وتعمل فيها مزيدا من التقطيع والمحاصرة، ومزيدا من المصادرات للأراضي وتوسيع المستوطنات، والانتهاكات للمقدسات واستكمال مشروعها لابتلاع القدس وما تبقى من حقوق للشعب الفلسطيني.
وفيما تقف السلطة الفلسطينية عاجزة ومستسلمة للهمجية الإسرائيلية في استهداف البشر والحجر في غزة، وتقف منزوعة الفعل والخيارات الحقيقية في الدفاع عن أبناء شعبها، يبدو الرأي العام العالمي خارج التغطية، فيما حكومات الولايات المتحدة والغرب والعالم تختفي في تواطئها مع العدوان خلف دعوات خجولة لإسرائيل لضبط النفس والتحذير من آثار تصعيدها العسكري على عملية سلام ومفاوضات ميتة أصلا، حيث تساوي في خطابها بين الضحية الفلسطيني والجلاد الإسرائيلي. أما الدول العربية وحكوماتها المنقسمة على نفسها، والتي تدور في حلقة صراع "داحس والغبراء"، وتغرق الكبرى منها في صراعات داخلية عميقة، فلا يتوقع منها أي مواقف حقيقية وفاعلة لوقف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، حتى في باب أضعف الإيمان، وهو الضغط على المجتمع الدولي ومجلس الأمن لأخذ موقف سياسي ضد العدوان.
وإذا كان العالم العربي، الذي كان في وضع أفضل نسبيا وأكثر فاعلية في العام 1982، لم يتخذ مواقف وسياسات حقيقية وفاعلة لوقف اجتياح لبنان واحتلال عاصمة عربية وارتكاب أبشع المجازر، فما الذي يمكن أن نتوقعه اليوم في ظل الحال المزرية من الفوضى غير الخلاقة وبحور الدم التي تغرق حواضر هذا الوطن الكبير؟!
تبدو إسرائيل اليوم وقد تحللت من كل المحددات الدولية، بما فيها إطار جون كيري وأكذوبة البحث عن طريق لاستئناف المفاوضات الميتة. فيما توفر البيئة العربية واشتعال الساحات العربية بأزماتها وانفجاراتها الداخلية، وانشغال "مقاومات عربية" عديدة بـ"جهادها" الخاص في ساحات عربية أخرى، فرصة مواتية لهذا العدو الإسرائيلي لشن حربه وعدوانه الجديد، والواسع، على الشعب الفلسطيني، والإيغال في دماء أطفاله ونسائه.
بشاعة العدوان الإسرائيلي الجديد، المعنون بعملية "الجرف الصامد"، والتي علمنا التاريخ أنها لن تتمكن من قهر الشعب الفلسطيني وإخماد جذوة مقاومته وثورته رغم كل التضحيات والدماء الزكية التي تراق، نقول إن بشاعة العدوان الصهيوني وبسالة وصمود الشعب الفلسطيني في وجه أعتى آلة قتل وإجرام في التاريخ، تعيد اليوم التأكيد على أن القضية الفلسطينية، واستلاب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ستبقى هي الثابت الوحيد في هذه المنطقة من العالم، والمحرك الرئيس لكل أزماتها واشتعالاتها. تراهن إسرائيل، ومن يتواطأ معها، في هذا العدوان على الوقت، والتهاء العالم بكأس العالم وأزمات المنطقة الأخرى، لاستكمال أهداف عدوانها. فيما يراهن الشعب الفلسطيني على قدرته على الصمود، والتضحية والتمسك بأرضه وحقوقه. وقد علمنا التاريخ أن إرادة الشعوب لا يكسرها احتلال ولا عدوان خارجي، مهما طال أو تجبر. وإن غدا لناظره لقريب.