المقاومة الفلسطينية تستعيد طبيعيتها
قاوم الفلسطينيون الاحتلال البريطاني بالسلاح قبل أن ينهكهم ويسلم وطنهم للأغراب. وبحسابات التوازنات التي لا يجعلها منطقها مثالية، لم يكن هناك أي تناسب بين قوة الفلاحين الفلسطينيين البسطاء ببنادقهم المتخلفة، وبين دبابات ومدافع الإمبراطورية البريطانية المخيفة. مع ذلك، كان قتالهم من أجل حريتهم طبيعياً وواجباً. لا يمكن أن يتحدث أحد عن تلك الانتفاضات الفلسطينية المجيدة ونظيراتها من الثورات العربية ضد الاستعمار باستخفاف وبغير إيمان بالأحقية، ولن يتهم أحد أولئك الثوار البواسل بأنهم كانوا انتحاريين أو غير واقعيين لأنهم واجهوا المخرز بالأكف. وكما حدث، انسحبت معظم الاحتلالات الإمبريالية من مستعمراتها في العالم بفعل مختلف العوامل، وعلى رأسها مقاومة السكان المحليين -بما أصبحوا يصفونه في حالتنا تواطؤاً: "العنف" و"الإرهاب".
من المؤسف كثيراً أننا نصبح مضطرين إلى الدفاع عن حق الفلسطينيين، بل وواجبهم في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل. لقد أدى التفريط النظري والعملي في صيانة هذا الحق إلى جعل المقاومة الفلسطينية تبدو حالة غير طبيعية، واقتصر مفهومها على أحداث نُقطية في سياق غامر من الهمود الذي أصبح هو الذي يجسد الطبيعي. وحتى هذه "الانتفاضات" التي تتخذ أحياناً مظهراً شعبياً وآخر عسكرياً محدوداً، أصبحت محل انتقاد البعض، حتى أن الرئيس الفلسطيني نفسه وعد أصدقاءه المحتلين بأنه لن تكون هناك انتفاضة فلسطينية ثالثة، باعتبار ذلك شيئاً سيئاً لخططه التي لم يقتنع بعد بتهافتها المذهل وخيانتها لأحلام الفلسطينيين.
انقطاع سياق المقاومة جعل الاحتلال يبدو طبيعياً هو نفسه. أصبح الانتباه إلى استعمار فلسطين كحالة غير إنسانية ولا شرعية، يستيقظ فقط حين ينتقم جيش الاحتلال من عمل فلسطيني مقاوم، فيقال إن "إسرائيل" تشن عدواناً على الفلسطينيين الآن، وكأنها لا تفعل ذلك بمجرد وجودها نفسه! بل وأصبح ذلك يوصف بأنه حرب بين نظيرين، بسبب أوسلو أيضاً، باعتبار أن الفلسطينيين دولة تحارب، وليس مقاومة ضد احتلال. هكذا، غامت كل المفاهيم في الصراع مع العدو وتغيرت تعريفات الطبيعي، بسبب ميوعة الخطاب السياسي الفلسطيني وتحوله المستمر في تعريف الجوهريات: فلسطين، المقاومة، والسلمي والعنفي، الدفاعي والإرهابي، ما يحق وما لا ضرورة له، وكل شيء تقريباً.
عند انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة ضد الاحتلال الصهيوني في الستينيات، كان أحد أخطائها المميتة –في رأيي المتواضع- هو تأسيس قواعد العمل العسكري خارج فلسطين. لم يكن من الممكن تشكيل جيش تحرير خارج الوطن. لم يكن أحد ليسمح للفلسطينيين ببناء شبه جيش على أراضيه. ولم يكن من الممكن تجنب الاحتكاكات والحساسيات الوطنية للدول، وضبط بعض عناصر الثورة حسنة النية أو سيئتها عن الاغترار بالقوة والانزياح عن السكة؟ وما حدث للثورة الفلسطينية المسلحة في الخارج معروف، والذي انتهى بتفكيك بنيتها العسكرية بعد غزو الكيان للبنان في العام 1982.
مع ذلك، كان تتويج منجزات الكفاح الفلسطيني المسلح، في رأيي، هو وصول الراحل ياسر عرفات إلى منبر الخطابة في الأمم المتحدة في العام 1974 (بعد نحو 9 سنوات من انطلاقة الثورة). لم يكن عرفات "سلمياً" حينذاك، وإنما كان قائداً لمنظمة عسكرية. حتى أنه وقف على المنصة بالفوتيك العسكري الذي أوصله إلى هناك أصلاً كقائد لحركة مقاومة. ذلك الذي أوقف ممثلي العالم كله ليصفقوا له طويلاً جداً. لم يكن ذكره البندقية مع غصن الزيتون شيئاً خارجاً عن اللياقة أو الطبيعية. كان ذلك موقفاً أكثر كرامة بما لا يقاس من خطابات اليوم المتوسلة في المحافل الدولية. كان العالَم كله يحترم نضال الفلسطينيين ولا يعتبره عنفاً أو إرهاباً أو انتحاراً كما ذهب به سوء الإدارة اليوم. كان ذلك هو الحد الفاصل بين عرفات المعسكرات وعرفات "المقاطعة"، وبين عرفات كله وعباس. بين أمل الفلسطينيين آنذاك وخيبتهم التالية.
الآن، بالرغم من كل ما فعله ساسة أوسلو الفلسطينيون من الإساءة لشرعية المقاومة بل واستهدافها مباشرة، يشرع الفلسطينيون في استعادة الطبيعية لفكرة المقاومة المسلحة المجيدة كحالة طبيعية في مواجهة هجوم عسكري غير منقطع -وفي داخل الوطن هذه المرة كما هي طبيعة الثورات الوطنية. سوف يتسبب الاشتباك بالخسائر، نعم، لكن الاشتباك هو البديل الوحيد عن الاستسلام والخسارة بلا مقابل، كما آمن الفلسطينيون أيام الانتداب، وكما هي الحقيقة في كل آن.