الانتصارُ لحسَّان - رضي الله عنه - على النابغة الذبياني
هوا الأردن - شريف الترباني
سمعنا بقصة تحكيم النابغة الذبياني بين حسَّان – رضي الله عنه – والخنساء – رضي الله عنها – في سوق عكاظ ، وقام النابغة الذبياني بتفضيل شعر الخنساء على ابياتٍ لحسان ، والقصة منتشرة في ثنايا كُتُب الادب أو التاريخ ، وكثيرٌ من المهتمين بالادب او التاريخ يُسَلِّم للنابغة تحكيمَهُ ، وينتصرُ لشعر الخنساء على شعر حسان بن ثابت ، وقليلٌ ممن اهتمَّ بالادب والتاريخ مَنْ ردَّ هذا التحكيم ، وحسَّان ممن وُجِدَتْ في حقِّه رواياتٌ باطلةٌ تطعن فيه وتزدريه منها قصةُ جُبْنِه ، وقد وفَّقنا الله لنفي هذه الطعنة والانتصار لشجاعة هذا الصحابي الجليل في رسالة أسمْيناها : ( اشهار السِّنان في الذَّبِّ عن حسَّان ) وهي مطبوعة .
وقد وقعتُ على بعض اسماء من انتصر لحسان وردَّ تحكيم النابغة الذبياني ، وقبل ذِكْرِهم ، وقبل تنفنيد حكمِ النابغة ، نريد ان نذكر الابيات ، ونقد النابغة لها :
قال حسَّان مفتخرا بقومه :
لَنا حاضِرٌ فَعْمٌ ، وبادٍ كَأَنَّهُ
..... شَماريخُ رَضْوَى عِزَّةً وَتَكَرُّما
أَلَسنا نَرُدُّ الكبشَ عن طِيَّةِ الهوى
..... ونقلبُ مُرَّانَ الوشيجِ مُحَطَّما .
والقصيدة كُلُّها فخرٌ بقومه اليمانيين ، ثم وصل الى الابيات التي نقدها النابغة ، وهي :
لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى
..... وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدَةٍ دَمَا
وَلَدنا بني العنقاءِ ، وابني مُحَرِّقٍ
..... فأكْرِمْ بنا خالاً ، وأَكْرِمْ بنا ابنَما !
فكان نقدُ النابغة لهذين البيتين كالتالي :
( أنتَ شاعرٌ ، ولكنَّكَ أَقْلَلْتَ جِفَانَكَ ، وأَسْيافَكَ ، وفخرتَ بمن وَلَدْتَ ولم تفخرْ بمن وَلَدَكَ ) .
فهذا مأخَذُ النابغة على ابيات حسان ، ان حسان جعل الجفان جمع قلة ، وهو جمع المؤنث السالم ( جفنات ) ، وكذلك قَلَّلَ سيوفَ قومه ، فَجَعَلَهُنَّ على أوزان القلَّة ( أفعال ) ( أسيافنا ) ، لأن جموع القلة خمسة ، وما تبقَّى فهو جموع كثرة ، وجموع القلَّة هي :
بِأَفْعُلٍ ، وبِأَفْعَالٍ ، وَأَفْعِلَةٍ
..... وَفِعْلَةٍ ، يُعْرَفُ الأَدْنى من العددِ
وسالمُ الجمعِ أيضاً داخلٌ معها
..... فهذه الخمسُ فاحْفظها ولا تَزِدْ .
فجموعُ القلَّة محصورة في هذه الاوزان الخمسة المذكورة في هذين البيتين .
وقد طار الصولي بهذا النقد ، ومدح النابغةَ على ذلك ؛ فقال :
( فانظرْ الى هذا النقد الجليل ، الذي يَدُلُّ عليه نقاءُ كلامِ النابغةِ وديباجةُ شِعْرِهِ ... ) !
ولم يقفْ حَدُّ النقد عند ( الجفنات ) و ( أسيافنا ) ، ( والافتخار بالابناء دون الاباء ) وهي مآخِذُ النابغة ، بل تَجَرَّأ بعضُ المُتَأخِّرين ، على توسيع النقد الى ألفاظ أُخرى مثل : ( يلْمَعْنَ بالضُّحى ) و ( يَقْطُرْنَ من نجدةٍ دَمَا ) .
وقبلَ الردِّ على النابغة ، والمُتأَخِّرين في مآخِذِهم ، نَوَدُّ ان نذكرَ بعضَ من أَنْكَرَ هذه القصةَ بِرُمَّتِها ، وقال : أنها قصةٌ مصنوعة .
لَمَّح سيبوية لضعف هذه القصة ، جاء في ( خزانة الادب ) ( 8 / 106 ) :
( على أنَّهُ إنْ ثَبَتَ اعتراض النابغة على حسَّان بقوله : قَلَّلْتَ جِفَانَكَ وسيوفَكَ ؛ لكان فيه دليلٌ على أنَّ الجموع بالألف والتاء جمعُ قِلَّةٍ ) ، وعلَّقَ البغدادي عَقِبَ قول سيبوية : ( وهذا طَعْنٌ منه على هذه القصَّةِ ) .
وكذلك الزجاج ، نقل عنه البغدادي في ( الخزانة ) ( 8 / 107 ) : ( وهذا الخبرُ عندي مصنوع ) .
قال البغدادي في ( خزانته ) ( 8 / 108 ) :
( وكان أبو علي يُنْكِرُ الحكايةَ المَرْوِيَّةَ عن النابغةِ ، وقد عرضَ عليه حسَّان شعرَهُ ، وأنَّه لما صار إلى قوله لنا الجفناتُ الغُرُّ ، البيت ، قال له النابغةُ : لقد قَلَّلْتَ جِفانَكَ ، وسيوفَكَ ! قال أبو علي : هذا خبرٌ مجهولٌ لا أصلَ له ... ) .
ولا بأس أن نتعرف الى الطُرُقِ التي جاء منها هذا الخبر ، معظم الطرق رواها ابو عبيدالله محمد بن عمران بن موسى المرزباني ، وهي كالتالي :
1 – قال المرزباني : كتب اليَّ أحمد بن عبد العزيز ، أخبرنا عمر بن شَبَّة ، قال : حدثني ابو بكر العليمي ، قال : حدثنا عبد الملك بن قريب ، قال : القصة .
2 – قال المرزباني : حدثني علي بن يحيى ، قال : حدثنا أحمد بن سعيد ، قال : حدثنا الزبير بن بكار ، قال : حدثني عمِّي مصعبُ بن عبد الله ،قال : القصة .
3 – قال المرزباني : أخبرني الصولي ، قال : حدثني محمد بن سعيد ، ومحمد بن العباس الرياشي عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء ، قال : القصة .
هذه الاسانيد ذكرها عبد القادر بن عمر البغدادي في ( خزانته ) ، فهي طُرُقٌ مقطوعةٌ ، ومدارها على المرزباني ، قال عنه الأزهري : ( كان معتزليا ، وما كان ثقةً ) ، وقال الخطيب : ( ليس بكذَّاب ، وأكثر ما عِيْبَ عليه المذهب ، وتدليسه للإجازة ، ولم يبين ) ؛ مذهبُه الاعتزال ، قال الحافظ : ( وأكثر ما يخرجه فبالإجازة ، لكنه يقول فيها : أخبرنا ، ولا يبين ) ، قال العتيقي : ( كان مذهبه الاعتزال ، وكان ثقة ) .
وقد يعترض معترضٌ أن القصص التاريخية ، لا تُعامل معاملة الحديث في نقد الاسانيد بل يُتَساهل فيها ، وهذا بشرط الا يكون فيها طعنٌ او وقيعة في رجل ، او اتهام ، وقصة تحكيم النابغة فيها اجحافٌ لشاعر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي كان في قمة الشاعرية ، وقد ارتضاه رسول الله للذَّبِّ عنه ، والردِّ على شعراء مشركي قريش .
فلا بدَّ من النظر اليها بموازين النقد ، لانها تتعلق بشاعرية ارتضاها رسول الله حتى قال : ( اهجهم فان معك روح القدس ) .
فكما ترى أخي القارئ طُرُقَ القصة كلها مقطوعة .
والان نشرع في الرد على مؤآخذات النابغة الذبياني ، وأنَّه لم يُصِبْ في ذلك ، إنْ ثَبَتَتْ القصةُ عنه .
1 - اعتبر النابغة أن جمع المؤنث السالم هو من قَسِيْم جمع القِلَّةِ ، والقلَّةُ في مورد الكرم مذمومة ، وهو قصد بذلك كلمة ( الجَفَنات ) وهو جمع جفنة ، وهو وعاء يوضع فيه الطعام للضيوف والطارقين ليلا .
وقد ورد هذا الجمعُ ولا يُرَادُ به القِلَّة ، قال تعالى : ( وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جَنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ... ) ، فهنا لفظة ( جنَّات ) وإنْ كانت جمعَ مؤنث سالم فهي لم تُشْعرْ بالقلة بل العكسُ صحيح .
وقال تعالى : ( وهم في الغُرُفات آمنون ) ، وكذلك جمع الغرفات لم يُشْعِرْ بالقلَّة .
فجمع المؤنث السالم لا يأتي غالبا للقلَّة كما في الآيتين ، فإنَّ كرمَ وفضلَ الله عظيمٌ وكثيرٌ لعباده المتقين في الجنَّة ، مالا عينٌ رأيت ، ولا أذنٌ سمعتْ ، ولا خطر على قلب بشر .
فإنَّ كلمة ( الجفنات ) في بيت حسان - رضي الله عنه - من هذا السبيل ، الذي لا يُراد به القِلَّة كما ذهب النابغة الذبياني .
2 – والمؤآخذة الثانية على غرار الجفنات ، ولكن لكلمة ( أسيافُنا ) وهي على وزن ( أفْعال ) وهي من جموع القِلَّة ، ولكن ايضا نردُّ مؤآخذتَه بقول الله تعالى فيما أعدَّه لعباده المؤمنين في الجنَّة : ( تجري من تحتها الأنهارُ ... ) ، فكلمةُ ( أنهار ) في الآية الكريمة لم يُفْهمْ منها القِلَّة أبدا ، بل اللهُ الكريم المنَّان ذو الفضلِ الواسع .
3 – المؤآخذة الثالثة : هي أن حسَّان افتخر بمن ولدتْ نساؤهم ولم يفتخر بآبائه وبقومه ، ونقول وبالله نستعين : ان حسّان – رضي الله عنه – في نفس القصيدة افتخر بآبائه وأشاد بهم ، ورفع من مكانتهم :
لَنا حاضِرٌ فَعْمٌ ، وبادٍ كَأَنَّهُ
..... شَماريخُ رَضْوَى عِزَّةً وَتَكَرُّما
أَلَسنا نَرُدُّ الكبشَ عن طِيَّةِ الهوى
..... ونقلبُ مُرَّانَ الوشيجِ مُحَطَّما .
بكلِّ فتىً عاري الأشاجع لاحهُ
..... قِرَاعُ الكُمَاةِ يَرْشِحُ المِسْكَ والدَّما
إذا استدبرَتْنا الشَمْسُ دَرَّتْ مُتُوْنُنَا
..... كَأَنَّ عُرُقَ الجَوْفِ يَنْضِحْنَ عَنْدَما .
فانظر الى هذا الفخر بقومه ، وكيف جعلهم أُسودَ الشراة يلطمون كبشَ القوم لطما ؟! بل جعل العرق الخارج من أجسادهم بمثابة المسك ، فكانوا يعتقدون قديما أن دمَ الملوك له ريح المسك ، فهو يرفع قومه الى درجة الملوك .
وبعد هذا الفخر بقومه أشار الى نجابة نسائهم ، وأنهن منجبات معرقات لا يَلِدْن الا الابطال والملوك ، فأيُّ عيبٍ على حسَّان إنْ أشاد بنجابة نسائهم ، وأنَّهُنَّ كريمات منجبات ؟!
والى عهد قريب كان البدو يتزوجون الفتاة التي إخوتهُا فرسانٌ صناديد ؛ عسى أن يُعْرِقْنَ وينجبنَ كماةً صناديد حروب ووغى ...
وهذا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلَّم – يَفْخَرُبخاله سعد بن أبي وقَّاص الزهري – رضي الله عنه - فيقول : ( هذا خالي ، فليُرِني امرؤ خالَه ) .
فلا عيبَ ولا ضيرَ يلحقُ حسَّانا بافتخاره بمن ولدتْ نساؤهم .
هذه مؤآخذات النابغة على أبيات حسَّان – رضي الله عنه – وقد قام بعضُ الناس بمؤآخذات أخرى ، قال المرزباني :
( وقال قومٌ ممن أنكرَ هذا البيت : في قوله : يَلْمَعْنَ بالضحى ، ولم يَقُلْ بالدُّجى . وفي قوله : وأسيافنا يَقْطُرْنَ ، ولم يقلْ يَجْرِيْنَ ؛ لأن الجريَ أكثرُ من القطرِ ... ) .
وسوف نتناول هذه المؤآخذات إن شاء الله .
فاللمعان في الضحى دليلٌ على عِظَمِ الشيء الذي يصدرُ منه هذا اللمعان ، أما في الدُّجى فيلمع أحقرُ الاشياء حتى عيونُ القططِ والحشرات ، وقد مارسنا ذلك في الصيد ليلا فكنَّا نرى عيون الحشرات تلمع وتبرق فنظنها صيدا ( أرنبا ) !
ولا يجذبُ بصرَك للمعانه في الضحى الا ما كان عظيما لا يخفيه ويطمسه ضوءُ النهار .
وفي الليل يظهرُ ضوءُ الشمعة على صغره وحقارته .
وقولهم :
( يجرين أبلغُ من يَقْطُرْنَ ) في ذكر الدماء التي على صفاح السيوف ، وهذا من عدم التذوق لهذه الصورة ( يَقْطُرْنَ ) ، فإنَّ السيف الذي يقطرُ دما أشدُّ رهبةً في القلوب من السيف المغطَّى بالدماء ، وذلك لأسباب يعرفها من عرف الطعن والكرَّ والفرَّ وكان ذا خبرة بالسيوف وأنواعها ، فالذي يقطرُ يختلسُ الأرواحَ اختلاساً ، سرعة كلمح البصر ، مضاءٌ وخفَّةٌ متناهيتان بحيث لا يعلق به الا الشيءُ القليل وهذا دليل على جودة السيف وقوة الضارب به .
فإن السيف الذي يعلق به الدمُ الى درجة ( الجريان ) لسيفٌ كليلٌ هو أقربُ الى الخشب منه الى حديد اليمانية ، وقد سبقني الى هذا المعنى بحمد من الله عالم قديم دون ان اطَّلع على قوله الا بعد كتابة هذه السطور ، قال ابنُ يسعون :
( وأما قوله يقطرن فهو المستعمل في مثل هذا ، يقال : سيفُه يقطرُ دماً . ولم تَجْرِ العادةُ بأن يقال : يجري دماً ، مع أنَّ يقطرُ أَمْدَحُ ؛ لأنَّهُ يَدُلُّ على مضاءِ السيفِ وسرعة خروجه عن الضريبةِ حتى لا يكادُ يعلقُ به دمٌ ) . فالحمدُ لله على توفيقه !
واستحضر دليلا على السرعة والمروق من جسد الرمية حيث لا يَعْلَقُ به شيءٌ حديث الخوارج وسرعة مروقهم من الدين حين شبههم الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالنبل السريع يمرقُ من أحشاء الرَّمية ولا يعلق به شيءٌ ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :
(يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يَنْظُرُ صَاحِبُهُ إِلَى فُوقِهِ فَلَا يَرَى شَيْئًا ... ) .
فسرعة السهم جعلته لا يمسكُ شيئا من أجزاء الرَّميَّة !