التحوط بدل التنجيم
يمضي العمل، منذ أشهر، لوضع خطة عشرية للاقتصاد. وقد أعلنت الحكومة الإطار العام لها، وشكلت اللجان التي لا تختلف في تركيبتها عن أي لجنة شُكّلت سابقاً. وهي تُجري المساعي لوضع تصورات قطاعية وتحديد أهداف هذه الخطة.
المفترض أن الجهود المبذولة كبيرة، والعمل سيكون لساعات طويلة؛ عشرات المسؤولين والمختصين يجتهدون لوضع أفكارهم في مجلدات ترسم خطة العمل للبلد لعشر سنوات مقبلة.
الانقسام داخل الفريق الحكومي حول الفكرة حاصل؛ فثمة من يؤمن بضرورة العمل على إنجاز الخطة، فيما يقلل آخرون من جدوى الجهود الموضوعة فيها، ومن دورها في إضافة منجز يسجل للحكومة. وحتى رئيس الوزراء د. عبدالله النسور، تحدث هو ذاته بواقعية، بعدم المبالغة في التفاؤل حيال الخطة وطموحاتها.
التشكيك في تنفيذ الخطة تحصيل حاصل، نتيجة فجوة الثقة بين الحكومة والمجتمع. لكن اليوم تبدو الإشكالية أكبر؛ فالمعضلة لا تقتصر على الالتزام بالخطة، بل تتعلق أيضاً بماهيتها ومدى قدرتها على رسم المستقبل، في وقت يصعب فيه التكهن بمجريات الأحداث في إقليم تتحرك فيه الملفات بتسارع غير مسبوق.
من قال إن التخطيط لعقد من الزمان ممكن؟ وهل ما يزال مبدأ التخطيط بعيد المدى مقبولا؟ وهل يقدر أي سياسي على التكهن بما ستؤول إليه الأحوال في محيط الأردن وداخله، خلال عام واحد؟ إلا إذا كانت الحكومة ستُنجّم بشأن ما يُتوقع حدوثه من أزمات، وهي حتى بذلك لن تنجح أيضاً بالتكهن بمستقبل الإقليم.
ليس هذا تسرعا في الحكم على الخطة بالفشل، وإنما تأكيد على حقيقة أن المعطيات المختلفة والتغيّرات الكبيرة التي عرفها الإقليم خلال السنوات الثلاث الماضية، تجعل صعباً بل وعصياً استشراف ما ستؤول إليه الأحوال في السنوات المقبلة.
خلال أسابيع، اشتعلت الأزمة في العراق، وسيطر تنظيم "داعش" على جزء واسع منه. وفي الفترة ذاتها، بدأت إسرائيل عدوانها الغاشم على غزة. وقبلهما هناك الأزمة في كل من سورية ومصر. والأردن؛ البلد الصغير، سريع التأثر بمحيطه، ولطالما دفع ثمن الأزمات التي تتفاقم من حوله.
يمكن للأردن أن يتعاطى بطريقة مختلفة؛ بحيث يَتوقع المناطق المعرضة لأزمات في المستقبل. وهذا ممكن من خلال قراءة عميقة لما حدث في الماضي، وتحليل المعطيات بشأن مناطق أخرى ما تزال بمنأى عن الأزمات، وبحيث تتحوط المملكة للأزمات، بدل التخطيط وفق معطيات حالية قابلة للتغير في أي لحظة ومن دون سابق إنذار.
نحن بحاجة إلى تخطيط استراتيجي يقوم على وضع سيناريوهات لمستقبل الإقليم، وليس خطة بأهداف غير قابلة للتنفيذ، أو تتنكر لكل معطيات التوتر المحتملة التي تؤثر على الأردن بشكل بالغ؛ فيما يتعلق بحجم المنح والاستثمار، والسياحة، وحوالات العاملين في الخارج، وغيرها.
أخطر التحديات التي يعاني منها الاقتصاد اليوم يتمثل في المديونية التي اقتربت من 20 مليار دينار، وبنسبة تتجاوز 89 % من الناتج المحلي الإجمالي. والحكومة، بموجب خطتها العشرية، ستسعى إلى تخفيض هذه النسبة إلى ما لا يزيد على 60 % مع انتهاء تنفيذ الخطة.
اليوم، تبلغ أقساط الدين وحدها 800 مليون دينار، فيما وتيرة الاقتراض مستمرة، نتيجة أزمة قطاع الطاقة وزيادة الإنفاق الحكومي، ما يؤشر إلى صعوبة تطبيق ذاك الهدف؛ كقيمة مطلقة وكنسبة أيضا، اللهم إلا إذا نزلت علينا أموال من السماء، وتدفق النفط من حيث لا نحتسب.
ربما تضع الحكومة خطة طموحة تدّعي فيها أنها تخفف من التحديات خلال العقد المقبل. لكن وجود هكذا خطة لن يعني شيئا، سوى إضافة وثيقة توضع على الرف، تكون خارج الزمن والحدث، إنما مع توليد مزيد من الإحباط لدى شارع لم يعد يؤمن بالحكومات ونواياها!