كم قرناً هي أعمارنا
ما كان يقوله برنارد شو عن حاجته لأن يعيش ثلاثة قرون، العربي المعاصر أولى بتمنيه وليس بقوله فقط، فلكي تتسع أعمارنا لحصار العراق أعواماً عجافاً وسورية أعواماً أعجف وغزة زمنا اليوم فيه بسنة، ينبغي لنا أن نعيش أكثر من ثلاثة قرون، فقبل أن ينتهي الحصار، أمامنا أيضاً ثلاثة أعوام هي زمن الحرب الكونية على داعش، فكيف مضت بنا الحياة ونحن الذين أحصينا أيامنا بملاعق الدم والدمع وليس بملاعق القهوة كما يقول الشاعر الإنجليزي إليوت!
فنحن نمضي من حصار إلى حصار ومن مذبحة إلى مذبحة أشد هولاً، ومن خذلان الأباعد إلى خذلان الأقارب أو العقارب لا فرق، ما دمنا قد قررنا أن نلدغ بعضنا حتى الموت وإن لم نجد من نلدغه نلدغ أنفسنا على طريقة ما حك جلدك مثل ظفرك، والأدهى هو ما عضّ كتفك مثل نابك!
لو قرأت لنا عرافة هذا الطالع ونحن صغارا نلثع بالنشيد والأبجدية لرميناها بالحجارة حتى الموت، لكن قدرنا منذ المهد إلى اللحد أن لا ننام ليلة واحدة باستغراق. فالغزاة والكوابيس و»الأعدقاء» من كل الجهات، والنعمة لدينا تحولت إلى نقمة، سواء كانت نفطاً أو موقعاً جغرافيا أو حتى عدداً ديمغرافيا!
ما من عاقل فينا إلا ويهمس يومياً لنفسه لقد جنى أبي علي وليتني لم أجنِ على أحد، لكننا جنينا على أبناء وأحفاد هم الآن في مهب عواصف التاريخ الغاشم، فقد لا يبقى متر مربع واحد في هذه الخرائط وتضاريسها المبللة بالدم يصلح مهداً أو خندقاً أو حتى قبراً آمناً في زمن يقتل فيه حتى الموتى مراراً، وتبعثر عظامهم وهي رميم، لأن أعداءنا يضيفون حسابات قديمة ويثأرون لهزائم عمرها أكثر من ألف عام.
إنها لحظة تراجيدية بامتياز قومي وعلى من شاء له قدره التاريخي وقضاؤه الجغرافي أن يولد على فوهة الجحيم أن يقاوم.. وأن يتعدد في أقاصي وحدته الموحشة وأن يضرب عدوه بذراعه إذا بتر وبتوأمه إذا سقط كما قال الباقي درويش، لكن ما قاله برنارد شو ونحن أولى به وهو متوسط عمر يناهز الثلاثة قرون يتطلب عدة ميتات، فالموت الواحد أيضاً لا يكفي، خصوصاً بعد أن أضاف تاريخنا إلينا أعداء ولدوا من صلبنا ومن رحم هذه الجغرافيا الرسولية الجريحة، ومنهم من زوّر مسقط الرأس والهوية وحتى العقيدة، فأصبح يكفرنا رغم أنه يصلي للشيطان!
كم داعشٍ وكم علقمي وكم ابن حرام يحرموننا من حقنا في النعاس والنوم ومن حقنا في الغناء والرقص وأخيراً من حقنا في أن نحيا ككل عبادا لله؟