الراحلون
يمضون كما تغادر الطيور المهاجرة التي لاتعود .. كما ترحل شمس الغروب مصفرة بعد أن أضاءت حياتنا ..و لكن الشمس تعاود الشروق وهم لايعودون .. يرحلون وتظل ذكراهم تعبق في مخيلتنا أياما .. أسابيع .. شهوراً .. سنينا .. ونظل نسكب دموعنا زيتا في قناديل الذكرى كي لاتنطفئ ويخبو نورها ...وكلما هبت رائحتهم يمر شريط العمر برفقتهم مفرحا موجعا لم يتبقى منه سوى أسماء وبعض الحكايات .. واستمطار للرحمات ....
يمضون .. يتساقطون كأوراق شجر ذات خريف .. تصفرّ الورقة .. تصير بلون الغياب والتراب .. تذبل .. ثم تهوي .. لتذكر الأوراق الأخرى أنها سائرة إلى هذا المصير .. ترى هل تبكي الأوراق؟ نعم انها تئن ولكنها تلتفت الى برعم صغير ينمو جانبها فتعطيه أجمل أيام عمرها .. رغم أنها تعلم أنها ستسقط عندما يكمل هذا البرعم تفتحه
لكم تبكي الشجرة الأوراق التي سقطت؟ وكم من غابة امتلأت أنهارا من دموع الفقد الموجعة... تسكن العصافير عندما تسقط ورقة.. تتألم حينما تتعرى الشجرة في الشتاء لأنها فقدت حضنا كان يلمها . .. لكنها لا تتوقف عن التغريد لأن ورقة شجر سقطت ...
وما يبعث الحزن المضاعف الممزوج بحرقة هي أن تسقط الورقة خضراء ذات ربيع و قد انتزعها من حضن أمها عاصفة هوجاء، أو طويت حياتها بيد عابث .. او وطئتها قدم القدر .. تسقط يانعة خضراء لم تعرف الذبول .. لكنها تسقط .. تاركة وراءها الفراغ الذي لايشغل ونزيف الوجع الذي لايتوقف
يغادرون بلا عودة .. رحلة باتجاه واحد ولمرة واحدة .. وكأنهم يرتاحون من عناء هذه الدنيا وظلمتها تماما كما يخرج الوليد من رحم امه المظلم الى حياة أكثر رحابة ونورا.... هل هو من رحل أم من بقي؟ انهم يعرفون إلى أين يذهبون .. وكانوا يعرفون أنهم راحلون .. فهل أعدوا لهذه الرحلة زادها؟ وهل تركوا ورائهم أياما وذكرى لتقول أنهم كانوا هنا؟ هل يسعدهم أن يتذكرهم الراحلون بعدهم أم يشقيهم هذا؟ هل يطربون لصوت العويل والنحيب ؟وهل يوقظ النشيج في وجدانهم لوعات؟... وتظل الارض وحدها الأرض تحتضن كل الأوراق التي نزفتها الأشجار .. تحتضنها بحب ربما فاق حب أمها الشجرة .. تضمها.. تحتضنها .. تجمعها مع أخوات سبقنها، وأخريات سيلحقن بها .. تعطيهن الدفء .. ومن دفئهن تولد حياة جديدة.
هي الأرض أمّنا الحنون .. خرجنا من رحمها ، واليها سنعود ذات يوم ، .كلهم يرحلون ....وتبقى الأرض .. سنغادر وتبقى الشمس التي تنير .. يبقى القمر المضيء والنجوم اللامعة كأعين عشاق .. تبقى ارادة الله المطلقة التي ليس كمثلها شيء .. تبقى الإرادة التي تنظم كل شيء، وتحسب كل شيء .. تأخذ كل شيء وتعطي كل شيء .. تسأل ولا يحق لأحد أن يسألها .. هي قبل كل شيء .. وبعد كل شيء .. كل شيء .. .
يمضون ، ويقف الراحلون غدا بصمت الخاشعين في حضرة من سبقوهم ؟ أما كنتم تعرفون أنهم مهاجرون وأنكم راحلون ؟ قد يكون أزف الرحيل قبل أوانه وقد تتشبث الورقة بأمها الشجرة، ولكنها ستذبل او تقطف .. وتسقط في النهاية .. الأوراق كلها تعرف طعم هذا الالم ، ومع ذلك يظل الوجع جليسا حاضرا في حضرة الغياب ..ويظل الامل مولودا في برعم يخلفها وترعاه حتى يشتد عوده ..ثم تغمض عينيها مستسلمة...
أيها المارون بين بين فواصل الذكرى ..ويا أبطال حكايات جميلة كانت برفقتكم... لن نجرؤ على نسيانكم ..ستظلون الغائبين الحاضرين ..كل ما على هذه الارض يعلقنا بكم أكثر وأكثر...لكن هذه الحياة قصيرة على أن اكمال الحكاية ...سنلتقي بكم في حياة لاتنتهي ولانتعب فيها ولانشقى بالفراق ..هناك حيث سنكمل كتابة فصول العمر الذي خطفته يد المنون ...وحتى نلقاكم نقول : ...الى لقاء...بأمان الله ...