الثقافة المهجورة
تتجذر ثقافة التطوع في صلب منظومة الفكر الاسلامي الايماني ، وتنبثق احكام الاعمال التطوعية من مصادر التشريع الاسلامي ،ومن الميثاق الاخلاقي والعهد الرباني لمهنة الخدمة الاجتماعية في الاسلام، والتي تهدف الى تحقيق الامن الاجتماعي وتعميقه لدى الفرد والمجتمع ، وهي بذلك ؛ ليست وليدة اي نظام او ثقافة لمؤسسة او منظمة اجتماعية محلية او عالمية معينة، ولا يحق لاي جهة الادعاء بان التطوع صناعتها ومن ثقافتها ، وبخاصة تلك الانظمة التي تدعي الديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الانسان ، وانما التطوع ثقافة اسلامية بحتة، تضرب اصولها وتترسخ منابتها في العمق الروحاني الايماني لتعاليم الاسلام الحنيف .
لقد حظي العمل التطوعي في الثقافة الاسلامية ما لم يحظاه في اي ثقافة او حضارة اجنبية من المكانة الايمانية الرفيعة ؛ فاحتل مرتبة عبادية عقيدية ربانية يثاب عليها فاعلها ويجزى بها الجزاء الاوفى، ويسال عن التقصير في ادائها ان كان قادرا عليها ، وهي تندرج تحت اعمال البر والخير والاحسان ، وهي معنى من المعاني الانسانية السامية ، ومنهج اصلاح وعدالة اجتماعية.
ان موروثنا الثقافي العربي الاسلامي يزخر بالكثير من القيم والمبادئ والثقافات والاخلاق والمفاهيم الايجابية السامية التي تهدف الى تربية الافراد والمجتمعات الاسلامية على فضائل وخصال التعاون والتكافل والتضامن والتعاضد والزكاة والتطوع ، وكل اعمال البر والخير المختلفة ، وان منظومة الاعمال التطوعية الاجتماعية الاسلامية بما تحمله من المعاني الايمانية تحفز المسلم على التفاني والتضحية من اجل الغير، وتقديم يد العون والمساعدة للاخرين ، ولقد كانت هذه الثقافة المهجورة او المنسية عاملا حافزا هاما لقيام المسلمين بدورهم الحضاري الريادي في الحضارة العالمية ، يوم ان كانت شمس الاسلام الدافئة تملأ الدنيا حضارة - علما وثقافة واخلاقا وفنا وادبا جما - .
ان المشاركة في نشاطات منظومة الاعمال التطوعية الخيرية والوطنية والانسانية رمز لتقدم الامة وازدهارها ، وهي مطلب حياتي معاصر ، واضافات حقيقية ، وركن اساسي من اركان التنمية المستدامة والتطوير السريع ؛ فهي ظاهرة اجتماعية ايجابية تدل على حيوية المجتمع وايجابيته ،وتعطي صورة عن مدى تقدمه ورقيه ،وتبرز صورته الانسانية ؛ فهي عطاء رائد ينم عن صلاح المجتمع وحيويته وتعاضده وتماسكه وهيبته وتقدمه، كما ان ممارسة انشطة هذه الاعمال الاجتماعية تعزز الهوية الوطنية والدينية ، وتعمق روح الولاء والانتماء للوطن والدين ، وتؤكد حب التعاون والمشاركة الجماعية التطوعية وصدقها ،وتؤجج روح التفاعل الاجتماعي في المجتمع .
ان ثقافة التطوع والاعمال والانشطة المنبثقة عنها ،ما هي الا نتاجات ترسيخ المبادئ وممارسة مفردات منظومة الاخلاق الايمانية ، ذات الصفات السامية التي تؤدي الى التلاحم والتعاضد والتضامن الاجتماعي ، وتعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية واستقرار الامن الفكري الاجتماعي ، وبخاصة ان العمل الاجتماعي في الاسلام يتسم باخلاقيات التسامح والتعاون والوفاء ، والتكامل والصبر والصدق والسرية التامة ، وهو ايضا ذو نظرة شمولية ،وفوق ذلك كله يخضع لمراقبة الله تعالى وخشيته.
ان ممارسة الاعمال التطوعية اضافة الى انها تؤدي دورا ايمانيا ؛ فان لها فوائد جمة للافراد، والمجتمعات، اذ تقول دراسات علمية حديثة، ان الانسان الذي يقوم بمساعدة الاخرين فانما يرسل للكون طاقة خير تعود عليه بالنفع والرزق والصحة والبركة ، ولها آثار ايجابية صحية تعود على الفرد بالتخفيف من الالام النفسية والجسدية؛ فهي تطرد الاحباط وتخفف من مرض الاكتئاب - داء العصر الذي يقال ان ليس له علاج - كما ان للاعمال التطوعية دورا في رفع نسبة تقدير الذات ؛ مما يؤدي الى زيادة ثقة الفرد بنفسه.
ان هذه الثقافة المهجورة او المنسية تدعو الى تضافر جهود المجتمع بكل فئاته لمساعدة افراده ومؤازرة الدولة على مواجهة الاوضاع الطارئة غير المحسوبة، ومعالجة مشاكل العصر والظروف الطارئة ، وانها لدعوة انسانية هامة تستحق التقدير والاهتمام لفهم رسالة ثقافة التطوع واهدافها ومضامينها باعتبارها رسالة سماوية انسانية لاصلاح المجتمعات ومؤازرتها في التعاضد والتكامل والتصدي للمشكلات التي قد تعترض تقدمها ونهضتها ورقيها ، اضافة الى ان من اهدافها تقوية اواصر التعاون والتآلف والاخاء والتكاتف بين فئاتها ، وتعكس مدى التآزر الذي يولد الراحة النفسية والسكينة والطمأنينة المجتمعية.
ان مجتمعاتنا العربية الاسلامية احوج ماتكون لاحياء هذه الثقافة المهجورة ، وتوعيتها برسالتها وباهميتها واهدافها ومراميها واساليبها وفوائدها ؛اذ ثمة تدن كبير في تفعيل هذه الثقافة والافادة منها ، حيث تعاني مجتمعاتنا على ساحة وطننا العربي الكبير نقصا حاد ا من فرص الافادة من هذا الموروث الحضاري الكبير ، وما كان ذلك ليحدث الا بسبب مشكلات التسييس والاهمال واللابالية، والاختلاف على الاولويات وجمود الخطاب الفكري وتقليديته في ميدان التطوع.
ان تنشيط فعاليات الاعمال التطوعية بكل انواعها والافادة منها بات لزاما على مجتمعاتنا وقادتها واصحاب القرار فيها ومسؤوليها ، بل اصبح فرضا وواجبا عليهم ؛ ذلك لمواجهة التقدم الهائل والتحولات المتلاحقة السريعة في جميع الميادين المعرفية والتقنية والاتصالية والمعيشية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ظل مشاكل العولمة والفقر والامية ، والظلم والاستبداد وتراجع القيم ، وفي ظل صخب وجعجعة وضجيج وفوضى المذاهب الفكرية المعاصرة وهيمنة افكارها السوداء التي داهمت مجتمعاتنا العربية والاسلامية ، من كل الانحاء ؛فثمة على الساحة مذاهب التغريب والماسونية والعلمانية والليبرالية والالحاد والمثالية والقومية والوجودية والذرائعية 'البراجماتية' وغيرها من المذاهب الهدامة التي اتخذت من مجتمعاتنا هدفا لها ومرتعا خصبا لزرع افكارها المميتة العفنة ، لقد ضاعت منا القيم والاخلاق والهوية يوم ان ضيعنا ثقافتنا ومبادءنا الاجتماعية والانسانية، فاختطف الغرب من ثقافتنا هذه القيم والمفاهيم الاسلامية الاجتماعية الكثيرة ، حيث اخذت هذه المبادئ والقيم والمفاهيم طريقها لتغزو المجتمعات الامريكية والغربية على السواء على قناعة منها ، فيشد بها ازرها وتساعدها على تقدمها ورقيها ، يومئذ ضاعت هويتنا ورؤانا عندما هجرنا هذه القيم والمبادئ او نسيناها ، وتخلينا عن تراثنا الزاخر بالقيم والمبادئ السامية ، واستوردنا ثقافات غريبة بديلة دخيلة علينا، لا تناسبنا.
ازاء ذلك كله، فقد آن الاوان ان نقف امام انفسنا في هذا العصر ، عصر ثورة المعلومات والاتصالات وبنوك المعرفة ، عصر الانسان الآلي والذكاء الاصطناعي ، عصر الهندسة الوراثية واستنساخ البرويتنات ،عصر مغامرة الانسان المثيرة لاقتحام الخلية والتلاعب بشفرتها الوراثية الدقيقة في محاولة للتحكم بصفات الكائنات الحية الجديدة واصطفاء احسن ما فيها ، عصر استعمار الفضاء والكواكب والاقمار الصناعية ،عصر احتدام صراع الثقافات والتكتلات والتحالفات الدولية ، وعصر النظام العالمي الجديد الذي اخذ يجاهر ينواياه الصريحة في الهيمنة على امتنا وسلب هويتها ، ونزع ارادتها وتقويض نهضتها ، وسلب خيراتها ،وحرمانها من امتلاك اسباب القوة والاستقلال ، ووأد مشروعها العربي الاسلامي في مهده قبل ان توقظ طلائعه صفوف النائمين وتجمع شتات التائهين، وتخرجنا من واقع التبعية والتخلف والاستلاب ؛ لا بد ان نصحو ؛ لنبحث عن ذاتنا ، يملؤنا الاعتزاز المتنامي بالانتماء الى ثقافتنا الذاتية وديننا الحنيف ، ويحفزنا توقنا العميق لاستعادة دورنا الحضاري وصياغة مستقبلنا بانفسنا كما نراه ونريده ؛ لنلحق بركب التقدم والارتقاء العالمي ، ونجد لنا على ساحته موقعا ، وعلى خريطته مساحة ، باذن الله .
acusc2001@live.com