وانقطع الحبل السرّي
في طُفولتي كنتُ أظنّ أن الحياة محصورة في حضن أمّي , كنتُ أظن أنني سأبكي وأفرح في حضنها الى الأبد , فتعلّمتُ الطهارة , وتعلّمتُ صفاء القلب وبياضه , طبعاً كان ذلك بالتواتر عن أمِّي , كنتُ أظن أن العالم ممتدٌ بين يسارها ويمينها فقط , كم كانت جميلة الحياة انذاك , كان الكون ضيق جداً وواسع في الوقت ذاته , ضيّق ٌ حيث أكتفي بصدر أمي , وواسعٌ حيث لا أكتفي من صدرها .
عندما كبرتُ وكأنني سكنتُ عالماً آخر , عالماً لا يشبه ذاك النعيم الذي ترعرعتُ به , حضنك يا أمي لم يكُن جنّة الخلود , حليبك الذي كان كنهرٍ جارٍ لا مقطوع ولا ممنوع , انقطع عني فتوجّب علي أن أمارس الحياة وحدي , وأن ادافع عن وجودي وانسانيّتي وحدي , اذا بكيت يجب أن أصمت لوحدي , اذا جعت أو عطشت عليّ ان أُعيلني , انقطع حبل رعايتكِ عنّي تماماً كما ينقطع الحبل السرّي , لكنك لا زلتِ تغدقين علي بالحب والطهارة والطيبة اللا منتهية , المعدومة من هذا الكون المتهدّل على حافة الجشع والوجوه المُستنفرة , ليتكِ علمتني يا أمي أن هناك في الكرة الأرضية أصناف أخرى عليّ أن اواجهها بسيف مثيل لذاك السيف الممتد بوجهي , العالم مليءٌ بالأشخاص السيئين لكن ما ذنبي إن كنت أراك ملاكاً في الأرض فظننتُ أن الكل على شاكلتكِ , ورحتُ أغدق بالطيبة والغفران والعطاء واكلف نفسي فوق طاقتي لأرى ابتسامة على وجوه الذين أحبهم , الكون لا يستحقّ يا أمي , وليتكِ علمتني أن لا أمنح قطعة من قلبي الى من ليس له (به) حق , لكنني منحتُ يا أمي ولم يتبقَّ لي منّي شيء .
لو كنتُ أعلم أن الدنيا قاسية الى هذا الحدّ يا أمّي لما خرجتٌ من رحمك , والذي نفسي بيده إن سبع ظلمات في رحمك أهون من ظلام قلب مفتوق وليل يجهش بأحشائي , أعيديني الى رحمك يا أمي , أرجوكِ أعيديني . ...