الأردن .. اترك وظيفة عليا وإحصل على اثنتين «مجانا»
حصل موظف رفيع المستوى خرج للتو من وظيفته العليا في الاردن على وظيفتين من الطراز الرفيع ايضا بمجرد تقاعده .. الرجل نفسه يخطط لوظيفتين اضافيتين ومن الوزن الثقيل ايضا احداهما الجلوس في موقع نائب رئيس الوزراء في اول تعديل وزاري متوقع والثانية تولي حقيبة مهمة على مستوى التخطيط الاقتصادي.
قبل ايام فقط لم يحصل رئيس منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة المستقيل على حقه الطبيعي والبشري في الاسترخاء ولو لـ 48 ساعة في منزله فقد نسبت فيه الجهات المعنية حكوميا كعضو في مجلس الاعيان وجلس في مكانه عضو في مجلس الاعيان ترك مقعده ليتولى ملف العقبة .. كلاهما بطبيعة الحال تقلد مسبقا ثلاث وزارات على الاقل.
الشعار الذي بدأ يثير موجة عاتية من التهكم اللاذع وسط المواطنين الاردنيين هو التالي (اترك وظيفتك العليا واحصل على اثنتين مجانا) .. انها بامتياز الطريقة الاردنية الفريدة في تداول السلطة .
عندما ولدت انا شخصيا عام 1967 كان بعض المسؤولين حاليا اصحاب وظائف عليا في تلك الحقبة مع خلاف بسيط آنذاك.. تمتع القوم ببعض الرشاقة والخفة في الحركة والتفكير اما اليوم فهم اقرب إلى الشخصيات المحنطة التي تفرض فرضا على الشعب الاردني مرة بحجة الحفاظ على الاستقرار الإداري العام ومرة بذريعة توزيع مكاسب وحقائب التنمية ومرة ثالثة تحت لافتة كذبة كبيرة اسمها المحاصصة وتمثيل الجميع .
بعض سكان الطبقات العليا في بلادي لا يتقاعدون كبقية خلق الله ولا يشعرون بالحاجة الملحة للاسترخاء او الاستراحة وهم دائما مميزون والوطن لا يساوي نكلة بدونهم وهم دعامات النظام والاستقرار حتى في الحالات التي يمارسون فيها كل خبراتهم وطاقاتهم في السحب من رصيد النظام عند الناس .
أصحاب القرار انفسهم يقولون في التشخيص الوطني بان جلالة الملك عبد الله الثاني قائد عصري ومتطلع بثبات نحو المستقبل لكنه يقود حافلة قديمة من طراز تلك الحافلات التي كانت تنقل الاردنيين من مخيم البقعة غربي العاصمة عمان إلى مدينة اريحا أيام الضفتين.
الحافلة لم تعد قديمة فقط لكنها»مهترئة» اليوم وعنصر الشباب نادر جدا وفي الكثير من الحالات زوجة الوزير تلد وزيرا وأم السفير تلد سفيرا وعقيلة عضو المجالس التشريعية تساهم في نقل الوظيفة ضمن الميراث الشخصي والعائلي . لذلك يشعر المواطنون في كثير من الاحيان بان اسماء بعض العائلات فقط هي التي تتردد عندما يتعلق الأمر بتوزيع مكاسب التنمية وفقا لقاعدة بسيطة اصبحت اشبه بقانون قوامها توزيع المناصب العليا والايحاء بان المسألة تنموية.
احد الظرفاء عدد اسم اكثر من ثلاثة آلاف عائلة في الاردن لم يوجد من يحمل اسمها في اهم 500 منصب في الهيكل الاداري الاردني منذ 30 عاما.
الجنرال السابق او المتقاعد يمكنه ان يتحول ببساطة إلى قائد حراكي او مناكف او معارض في الشارع اذا لم يزوده القوم عند لحظة تقاعده بوظيفة جاهزة مليئة بالامتيازات ومفعمة بالخمول وعدم الانتاج .
الوزير السابق لا يتقاعد في الاردن خلافا لما يحصل في كل مجتمعات الدنيا فسرعان ما يتحول إلى رئيس شركة كبيرة او بنك او مؤسسة مالية وظيفتها إحباط مؤسسات القطاع الخاص.
ومن يحظى بوظيفة عليا يتوقع تلقائيا بان واجب الدولة والنظام المقدس ينحصر في تدبير وظيفة عليا جديدة له اما في مجلس الاعيان مثلا او في السلك الدبلوماسي او في تلك المجالس التي تشكل بين الحين والاخر للاستثمار اكثر في اعاقة القطاع الخاص والمشاريع الانتاجية او تدوين المزيد من الوثائق المرجعية التي لا يقرأها احد او في الاسترسال في لعبة تدمير سمعة وانهيار مؤسسات التعليم العالي .
لا احد في الطبقة العليا من سكان المجتمع يؤمن بفكرة التقاعد والغريب ان هذا الايمان المعاكس لا ينتهي اطلاقا بوجود نخبة منشغلة بالهم الوطني او منتجة فعليا في اصلاح الاخطاء ومظاهر الخلل بقدر ما ينجح هذا الايمان المعاكس في مراكمة المزيد من الاحباط وتغليف الغبار وتكثيف الهراء الاداري واعاقة اي تقدم او نمو في المستوى الاداري .
من لم يحظ بفرصة الحصول على لقب سفير او وزير يمكن تدبيره بوظيفة مستشار التي تعني على الاغلب الاعم هاتف خلوي حكومي مدعوم ولوحة سيارة حمراء مع سائق يحضر «الباميا والخبز» للمدام وينقل الاولاد للمدرسة على ان يقتصر العمل على الحد الادنى من الاستشارات الفعلية.
اغلب الانجازات الحقيقية سياسيا هي تلك التي تنتج عن مبادرات وتحركات القصر الملكي والأمن والاستقرار محصلة للجهد المضني الذي يقوم به بعيدا عن الاضواء واي امتيازات وظيفية حراس الأمن والعسكر اما في المستوى الاداري فلا يوجد من يمكن القول بانه ينتج شيئا مع وجود عشرات الادلة على استمرار الاسترخاء في حضن الترهل الاداري .
بسبب الزحام على الوظائف العليا محدودة العدد في كل الاحوال وبسبب العقدة العامة التي تدفع آلاف الاشخاص لاعتبار انفسهم زعماء واجدر بالمناصب الرفيعة .. بسبب ذلك يكون العرض اقل من الطلب في بعض الاحيان فتنشغل مجسات الادارة بتلك العروض المتعلقة بالانتخابات العامة على امل تزويد من لا يمكن تدبيره من الشخصيات المهمة بوظيفة حقيقية بمقعد برلماني من طراز «مزور درجة اولى».
طبعا كل مسؤول في موقع متقدم تتاح له فرصة الادارة والحكم وتمثيل الناس والمؤسسة يحرص بحماس على الاستعانة بطبقة تشبهه من الانتهازيين المؤمنين بالولاء الشخصي وليس الولاء الوطني.. لذلك تشعر بالخيبة في المستوى الاداري تتنقل من مكتب إلى آخر حتى ان مراكمة الموظفين دون وجود حاجة لهم اصبحت سلوكا اداريا دائما بمثابة بقرة مقدسة لا يمكن الاقتراب منها فقد أقسم لي شخصيا احد مدراء بلدية العاصمة بان عدد الكراسي في مكاتب ادارته اقل بكثير من عدد الموظفين وبالتالي لا يحضر الموظفون للدوام.