صكوك الغفران بين الشرق والغرب
نظرت إلى الغرب... إلى ماضيه، إلى قسيس كان عندهم يبيع صكوكا تسمى صكوك الغفران، يدفع ثمنها المشترون ذهبا أو نقودا أو متاعا، ويمضون فرحين بما آتاهم هذا القسيس من نهاية تضمن لهم دخول الجنة في السماء، مصدقين بالخرافة، وغارقين بالسذاجة حتى الأذنين... ثم عدت إلى ماضيه القريب، فوجدت "هتلر" يصنع حربا إقليمية عالمية ثانية، ومن قبلها كانت حرب عالمية أولى، خلفت كلاهما قتلا وهدما، وعالما يتخبط بالخوف والجوع .. بفوضى عارمة.
من بين تلك الأنقاض خرج عرافا واسمه"مالتس"، توقع أن الغرب سيواجه مستقبلا يجتاحه الفقر وتنتشر فيه المجاعات والأمراض والأوبئة، وتتفاقم فيه الجرائم والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشديدة الوقع والأثر.
تنتهي الحرب وتمر مرور سحابة غيم أمطرت عزما، أزاح غبار الخوف والعجز، وطوى زمن الخرافة، وأخرج من ظلوا بعد الحرب من شعوبها أشد قوة وبلاء، وبدء حياة نشطة جديدة دخلت حناجرهم وبيوتهم، مصانع وآلات، وقوة ضاربة، وحضارة هائلة، ورفاهية لم تعهدها شعوب الأرض من قبل، نرى فوائض إنتاجها يدخل بيوتنا، لننعم بجزء من رفاه صنعته بقية شعوب خرجوا من حروب عاصفة إلى شعوب اهتزت وسقطت دون أن تطالها آلة الحرب أو تصيبها.
وحين نظرت إلى الشرق رأيت أطرافه وقد دقتها آلت الحرب، فحرقت أرضها وأتلفت زرعها، وقتلت وشردت شعبها بعد أن جرب عليها أول قنبلة ذرية خلفت الأمراض والعلل، وزرعت شعاعا مازال يتجدد ولا ينتهي، لكنها خرجت هي الأخرى من بين الركام تحمل إرادة النهوض فنهضت مثلما نهض الغرب، ورسمت حضارة صناعية هائلة، نرى فوائض إنتاجها أيضا يدخل بيوتنا، لننعم بما أبقاه الشرق وفاض عن حاجته، لنغرف منه ونحن نغط بنوم عميق من أثر الصدمة التي تبعد عنا آلاف..آلاف الأميال.
عدت إلى الوسط أنظر إليه فرأيته في مشهد مختلف، رأيت ناطحات السحاب تقام في العراء، ورأيت الشوارع تكتظ بالسيارات الفارهة والقصور والمدن المخملية، ورأيت الأجساد النحيفة قد اعتمرت بالكروش المنتفخة، والوجوه السمر قد خفت سمرتها، بل شممت روائح الشرق والغرب تنعش أنفي فصحوت...
صحوت على واقع جديد وحياة عامرة، زاخرة بالمباهج والأفراح . لم تكتمل فرحتي حين عرفت أن هذا الجزء المتخم بالفرح يشكل نسبة من كل كبير يهدده الجوع والفقر...الفقر المدقع حين مررت بزقاقه وحاراته، فوجدت المتسكعين والعاطلين عن العمل وطوابير الشحاذين، وأولئك الذين يستوطنون القبور، ومن هم بالخيام, وأولئك الذين يلتحفون الأرض فراشا والسماء غطاءا، وأولئك الذين يموتون يوميا لنقص في الدواء والعلاج، وغيرهم ممن يعيشون تحت وطأة الخوف وفوق مساحات مسروقة من ديارنا ينتشر فيها القتل والتشريد، وأخرى مستعمرة، فبكيت...
رحت أسأل نفسي التي تقع بين الفرح والبكاء عن حالنا المختلف، فوجدت أننا نحب القفز إلى الخلف ونتغنى بقبليتنا وعروقنا المتناثرة هنا وهناك، كأنما نحيا في زمن الردة، زمن الجاهلية الأولى الذي تجدد في زمن الصحوة والنهوض العالمي..زمن المعرفة والعلم والصناعة الذي لم نشارك فيه، ..فعرفت أننا ننتظر...ننتظر من يأتي أو من يخرجنا من وسط العتمه…!