دموع التماسيح
مؤشر على مصدرها ، فما أن تذكر حتى يتبادر لك إسم البلد الذي يشتهر بها ، مثل الصوف الإنجليزي، والقمح الأمريكي المفأرر، والكهربائات اليابانية ، والخزف الصيني ، والهال اليماني، والغاز القطري ، والرز الهندي ، والذهب الروسي ، والسمنة البلقاوية والمسخن الفلسطيني والمنسف الأردني والجميد الكركي والكنافة النابلسية وياسمين الشام والباجا العراقية والمدمس المصري والفتة اللبنانية وهكذا دواليك.
أما عندما تذكر دموع التماسيح في أي حديث ، فإن الأنظار والأفكار تتجه فورا إلى اليهود الصهاينة الذي خلطوا الدين بالفكر وخرجوا بخلطة عجيبة غريبة ، لا تكفر الآخر فحسب ، بل تخرجه من نطاق الخلق ، وهذا ما نلمسه ، وهو أن من يرفض السير في الركب الصهيوني ، يكون معرضا للغضب الصهيوني بكل أشكاله ، وهذا ما تتعرض له أوروبا هذه الأيام بعد أن تبين لها الخيط الأبيض من الأسود في موضوع القضية الفلسطينية ، كما أن يهود أنفسهم لم يسلموا من هذا العقاب لأنهم في البدايات رفضوا الإنضواء تحت لواء الصهيوينة التي جاء بها ثيودور هيرتزل ووايزمان وجابوتنسكي وآخرون.
لقد ناضل العديد من اليهود ضد الصهيونية ، وفي مقدمتهم حركة ناطوري كارتا التي تعني باللغة العربية "حراس المدينة" ومقرها الرئيسي القدس المحتلة ، وينتشر أتباعها خارج القدس في كل من أمريكا وبريطانيا ، ويناضلون على الساحة الدولية ضد الصهيونية ومستعمرة إسرائيل ،بطريقة أشرس مما يقوم به العرب الذين إنتقلوا هذه الأيام إلى التحالف مع مستعمرة إسرائيل، وترى حاخاماتهم يشاركون القوى العالمية الحرة محاولات كسر الحصار على غزة ، كما أنهم في القدس المحتلة يشاركون الفلسطينيين في مآسيهم الناجمة عن الإحتلال الصهيوني ، ويقدمون العزاء لأهالي الضحايا من الفلسطينيين الذين يقضون على يد جنود الإحتلال ،كما انهم لا يزالون يعتبرون انفيهم فلسطينيين يهودا عربا، وقد قدموا طلبا للأمم المتحدة عام 1948 بمنحهم جوازات سفر لاجئين لنهم برفضون العيش في مستعمرة إسرائيل ، لكن الأمم المتحدة لم ترد عليهم حتى يومنا هذا ، دليلا على تواطئها مع الصهاينة، ومعهم في ذلك الطائفة السامرية التي تتخذ من مدينة نابلس مقرا لها .
قبل نحو عشر سنوات حضرت في العاصمة عمّان ، مؤتمرا يهوديا للتغطية الإعلامية ،شارك فيه العشرات من صهاينة العالم، وللحقيقة كنت رافضا فكرة التغطية منذ البداية لكن إلحاح منظمي المؤتمر إستفزني كثيرا بعد أن قال لي المنظم د.أيمن خليل :يا أخي تعال وشوف شو في عنا .
وبالفعل ذهبت في الجلسة المسائية الختامية ، وبعض نوايا الرفض للحضور ما تزال متأصلة في نفسي لكراهية رؤية أي صهيوني ،وقد وصلت بعد أن بدات الجلسة الأخيرة ، ووجدت فوضى عارمة وصراخا تجاوز رفع العقيرة ، من نساء ورجال ،يهتفون بصوت واحد :أوقفوا هذا النازي .
سألت أحد المنظمين عما يجري ولماذا هذه الضجة الكبرى ، فأجابني أنهم لا يريدون السماح للحاخام موشي هيرش بالكلام ، وهو بطبيعة الحال كان حاخام طائفة ناطوري كارتا وقد إنتقل مؤخرا إلى رحمة الله.وللمعلومة فإن اليهود الحقيقيين هم طائفتي السمراء في نابلس ، وناطوري كارتا في القدس، والبقية
متهودون من إقليم بحر الخزر .
إنتظرت مراقبا وكلي لهفة بالتدخل كي أخرس تلك الأصوات ، فأنا أعرف هذه الطائفة حق المعرفة وقرأت وكتبت عنها الكثير،وما أثار إعجابي وأشعل فرحتي قوة شخصية ونزاهة منظم المؤتمر د.أيمن خليل الذي مسك المايكوفون وقال بحدة الرجال : أرجو أن تصمتوا ومن لا يعجبه ذلك فليخرج ،لأننا سمحنا لكم أن تقولوا ما تشاؤون ، وللرجل الحق في إبداء رأيه.
صمت الجميع على مضض لكن البكبكة ومحاولات المقاطعة لم تنقطع ، لكن الحاخام الراحل هيرش أسمعهم كلاما "أكثر وساخة من وسخ الأذنين "كما يقول المثل العربي ، إذ ألقى عليهم كل صفاتهم وقال لهم أن هيرتزل صاحبكم الصهيوني سرق اليهودية من الرب ،كما فعل شارون أيضا .
ما كاد الحاخام هيرش يكمل كلامه حتى ضجت القاعة بالصراخ والبكبكة وتخيلت القاعة تموج في فوضى عارمة ،وقد إستغللت الفرصة وتوجهت إلى الحاخام هيرش وصافحته وعرفته على نفسي ، وقمت بتقبيل رأسه سبع مرات على مرأى ومسمع الجميع ، وبعد ذلك جاء نفر من الرجال والنساء يلومنني لأنني صافحته وقبلت رأسه ،وكنت خبيثا بعض الشيء عندما أجبتهم:إنني أحبه جدا وأعتبره مثلا لي ،عندها إنقلبت سحن هؤلاء وإنصرفوا وكلهم حقد عليّ.
بعد ذلك طلبت منه إجراء حوار صحافي وقمت بالطلب من د.أيمن خليل إقناعه بذلك لأن الوقت كان متأخرا ، وأنه يرغب بالوصول إلى الجسر قبل حلول الليل حتى لا يقوموا بقتله في العتمة .
وأخيرا وافق شرط ألا يطول اللقاء وحدد لي 15 دقيقة فوافقت ، ولكن حوارنا إستغرق 45 دقيقة ، أنا الذي أنهيته مع أن رغبته كانت واضحة في المزيد من الحوار، وقد قال لي :يا إبني أنا فلسطيني مثلك وهؤلاء لن يخيفوننا وسنهزمهم في نهاية المطاف ،لأننا نرغب في إنقاذ اليهود من براثنهم ،فقد سرق شارون اليهود من الله وتحالف مع الشيطان لقتل الفلسطينيين.
نعود إلى البكبكة ، فقد حضرت مؤتمرا للأ ديان ،عقد أيضا في عمّان قبل عدة سنوات ،وأثناء الإستراحة كنا خارج القاعة مع عدة صحافيين غالبيتهم من وكالة بترا الرسمية ، وأثناء ذلك لمحت عجوزا تتجه بسرعة نحونا ، وقلت للزملاء أن تلك العجوز قادمة إلينا ،ولم يصدقوا .
ما هي إلا لحظات حتى غزتنا وحاولت مصافحتنا ، فنظرت إلى الزملاء ولسان حالي يقول :ماذا قلت لكم؟
بعد أن صافحتها على أنها عجوز أجنبية وربما تكون مؤمنة لحضورها مثل هذا المؤتمر ،سألتها من أين تكون ؟فردت علي "من هون ؟فسألتها :من أي بلد يعني ؟فردت :من هون من عند جيرانكم ،لكني تظاهرت بالغباء وسألتها مرة أخرى :من وين يعني ؟فأجابت بكل ثقة :من إسرائيل جيرانكم.
عندها فاض بي الكيل وقلت لها ضاحكا : لا يوجد على الخارطة بلد إسمها إسرائيل ، هناك فلسطين.
عندها رفعت عقيرتها وبدأت تبكي وتصرخ مولولة أنني شتمتها ولم تترك أحدا من المشاركين إلا وروت له قصة مثيرة عن كيفية قيامي بإهانتها وتوجيه الشتائم لها كونها يهودية.
لم تمض دقائق معدودات حتى جاءني رجال الأمن وطلبوا من مرافقتهم لإحدى القاعات ليعرفوا ما جرى ،وقمت برواية ما جرى وكيف إقتحمتنا وأعلنت انها من إسرائيل جارتنا ، ولم يصدقوا روايتي ،ولكن الله أنقذني بدخول زملائي من وكالة بترا الرسمية ، ورووا ما جرى دون أن أطلب منهم ذلك ، وأكدوا أنها هي التي إقتحمتنا .
عند ذلك تغيرت لهجة رجال الأمني معي وطلبوا من مصالحتها لإنهاء الأمر ،لكني رفضت ذلك حتى لو وصل الأمر إلى إعدامي .
في البكبكة أيضا ، شاهدت قبل أيام فيديو لليهودي الأمريكي المحترم د.نورمان فينيكلستاين وهو يتحدث في محاضرة بجامعة واترلو أكد فيها على صبغة إسرائيل الإجرامية وإرهابها المتواصل ضد الفلسطينيين، عندها تصدت له فتاة يهودية باكية وإتهمته بالعداء للسامية وبكراهية اليهود وإتهامهم بالوحشية .
كان السيد نورمان حاسما في رده وحاول إسكاتها ، لكنها تعمقت في البكاء في محاولة لإستدرار عطف الحضور ،فصرخ السيد نورمان في وجهها :إخرسي ودعيني أكمل كلامي ، فأنا من عائلة قضت في المعتقلات النازية ومع ذلك لدي عقل وعندي علم ، وأسمعها أوصاف الصهاينة ، وطلب منها إن كان عندها قلب وعاطفة وتعرف معنى البكاء ،أن تحزن وتبكي على عذابات الفلسطينيين الذين يتعذبون على أيدي اليهود الصهاينة.
وأكد لها أنه لا يحب دموع التماسيح التي يتصف بها اليهود الصهاينة لإستدرار عطف السذج من الناس، وعندها ضجت القاعة بالتصفيق تعبيرا عن تأييدهم له وإستحسانا لما قال ، ولعمري أن هذا التغير الذي يحدث في أوروبا هو سبب نقمة اليهود الصهاينة على الأوروبين هذه الأيام ، وسنرى سلسلة من الأحداث الإرهابية في أوروبا بعد جريمة شارلي إيبيدو الفرنسية الساخرة المتصهينة لضرب عصفوين بحجر واحد ، إرهاب الأوروبيين ، وخلق نقمة على المسلمين.
قائمة اليهود المعادين للصهيونية تطول وحالات البكبكة اليهودية الصهيونية لا حد لها ، ويجب التأكيد على أن اليهود في بدايات ظهور الحركة الصهيوينة لم يقبلوا عليها ورفضوا الإنضواء تحت لوائها ،ولم يهاجروا إلى فلسطين طواعية ،وقد إرتكب الصهاينة المؤسسين العديد من الخطايا بحق يهود ومنها إستغلال الدين لأهداف سياسية.
لنأخذ على سبيل المثال ، اليهود العرب العراقيين الذين رفضوا الإمتثال عام 1950 لقانون رئيس الوزراء العراقي الموالي لبريطانيا توفيق السويدي، القاضي بإسقاط الجنسية العراقية عن اليهود العراقيين الراغبين بالهجرة إلى فلسطين ، لكنهم وبعد مرور عام على القرار لم يمتثل منهم له سوى العشرات ،الأمر الذي جعل الحركة الصهيونية تشعل العراق بالعديد من التفجيرات لإجبار اليهود العراقيين على الهجرة إلى فلسطين ،وبالفعل أجبرت 120 ألفا منهم على الهجرة إجباريا عبر قبرص ، ومن ثم إحتجازهم في معسكر إعتقال بائس إسمه:المعبراه"، وبعد ذلك جرى توزيعهم على العديد من مناطق فلسطين.
وما جرى لهم تعرض له بقية العرب اليهود في مصر وليبيا واليمن وغيرذلك حتى أن يهود أوروبا وتركيا عانوا من ذلك الإرهاب.
لقد عانى هؤلاء اليهود المهجرون من بلدانهم الأصلية قسرا من عنصرية الصهاينة اليهود الغربيين الإشكينلزيم ، ولم ننسى ما تعرض له يهود إثيوبيا الذين أسهم "أمير المؤمنين"في السودان جعفر النميري في بيعهم لإسرائيل من خلال موافقته على المرور من أجواء السودان ،مقابل حفنة من الدولارات ،وقد رشوهم بال ديد دي تي لتعقيمهم ،كما أنهم في البدايات رفضوا الإعتراف بهم كيهود، ووضعوهم في الجبهات المتقدمة للتصدي للفلسطينين إبان كانوا يناضلون من أجل وطنهم ، قبل أن يتحولوا إلى "مناضلين "من أجل دولة على الورق ، لزوم الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية.
هناك أعلام عربية وغربية يهودية ما تزال تناصب الصهيونية العداء ،وغالبيتهم يرفضون العيش في مستعمرة إسرائيل ومن هؤلاءالأدباء العرب اليهود العراقيون على سبيل المثال :الروائي سمير النقاش الذي إنتقل إلى رحمة الله في لندن عام 2004 ،وكان مصرا على الكتابة باللغة العربية ومعه شمعون بلاص وسامي ميخائيل ونعيم قطان ونزهت قصاب وصموئيل المعلم وإسحق بارموشي ومراد ميخائيل وسلام دروش وآخرين.
لا بد من الإطلاع على كتاب أستاذ التاريخ في جامعة مونتريال ، اليهودي البروفيسور يعقوب رافكين بعنوان" المعارضة اليهودية للصهيونية" وقد تحدث فيه عن رفض اليهود للصهيونية، مؤكدا أن الصهيونية إستغلت اليهودية .
لقد أغاظت جرأته المؤسسة اليهودية في مستعمرة إسرائيل ، وغضب منه اللوبي اليهودي في أمريكا وهناك من يقول أنهم هددوه بالقتل ، وقد إتهم الصهينية بعمليات قتل اليهود لتهجيرهم من دولهم بالقوة والغدر والحيلة من أجل إعادة تشكيلهم من جديد وخلق طبقة عريضة علمانية منهم.
ليس سرا القول أن الصهيونية تحالفت مع النازية في أوروبا وكان الهدف مشتركا وهو تطهير أوروبا من اليهود ، ومن الثوابت أن النازي هتلر هو أول من دعا لمنح اليهود فلسطين وطنا قوميا لهم ، قبل البريطاني بلفور ،لكن الصهاينة لم يريدوا منح هذا الشرف لهتلر كي يستغلوه ويحلبوا المانيا من بعده ،وقاموا بتمجديد بلفور رغم معرفتهم بالحقيقة كاملة.