جاء رد حزب اللـه فلا تستعجلوه
جادل كثيرون، خصوصاً من خصوم حزب الله وحلفائه، بأن الحزب لن يرد على عملية القنيطرة التي أفقدته ستة من كوادره العسكرية وجنرالا في الحرس الثوري الإيراني ... إسرائيل، على المستويين الأمني والسياسي، كانت تتوقع الرد، وكانت تفضله مضبوطاً ومحدوداً، لا يملي عليها الانزلاق إلى حرب شاملة لا تريدها ... بعض الإسرائيليين الذين أعمتهم الغطرسة، كالضيف الذي قابلني في حوار مع تلفزيون “بي بي سي” أمس الأول، كانوا يستبعدون تماماً أن يجرؤ الحزب على اتخاذ خطوة من هذا النوع ... ردنا كان، أن الصاروخين اللذين ضربا الجولان لا يمكنهما اختزال رد الحزب، وأن هذا الرد آت لا ريب فيه، فلا تستعجلوه.
خلال الأيام الفائتة، شهدت صحف ومحطات تلفزة عديدة، حفلة “شماتة” بالحزب وقيادته، دارت في جُلّها حول نقطة واحدة: أين الرد يا نصر الله، أين الانتقام يا حزب الله؟ ... وقد كرست لذلك ساعات من البحث ومساحات واسعة من الصحف والنشرات ... ها هو حزب الله يرد، وفي مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، وبضربة مؤلمة للعسكرية الإسرائيلية، فما الذي سيقوله هؤلاء اليوم وغداً؟
المؤكد أنهم سينقسمون شيعاً وقبائل، بعضهم سيلزم الصمت، وسيتمنى أن أحداً لم يقرأ ما كتب أو سمع ما قال ... بعضهم الآخر، سيستدير بزاوية مقدارها (180) درجة، وسيبدأ حفلة ردح جديدة، عنوانها هذه المرة: “حزب الله يريد توريطنا وتوريط لبنان خدمة لأجندات خارجية” ... آخرون سيقولون إن الرد محدود ومضبوط، وربما منسق مع الجانب الإسرائيلي، انطلاقاً من نظرية شوهاء يتبناها هؤلاء مفادها: أن الحزب وإيران يشتركان مع إسرائيل والولايات المتحدة في هدف واحد، ألا وهو بقاء النظام السوري، وقطع الطريق على “الثورة السورية”.
خلاصة القول، أن حزب الله لن يسلم من سهام النقد والتشكيك والتشهير، إن لاذ بالصمت، تحول إلى مادة للشماتة والتندر، وإن بادر إلى الرد، اتهم بالمقامرة والمجازفة غير المحسوبة ... حزب الله اختار الرد، لإعادة ترميم صورته الردعية، وهو فعل ذلك بطريقة ذكية ومحسوبة، فاختار هدفاً عسكرياً واضحاً، وعلى أرض لبنانية محتلة، وبصورة من المفترض أنها لا تستدعي الانزلاق إلى مواجهة شاملة، لا يريدها الحزب وحلفاؤه الآن، ولا تريدها إسرائيل وحلفاؤها كذلك.
على أية حال، لقد دفع الحزب عن نفسه الحرج، وألقى الكرة في ملعب نتنياهو وحكومته ... فبعد أن كان الحزب بين خيارين أحلاهما مُرّ، الصمت المحرج أو الرد المكلف، تجد إسرائيل نفسها اليوم، في وضع حزب الله بالأمس: إما الدخول في حلقة من ردود الأفعال المحسوبة، وهذا خيار يفضله حزب الله بكل تأكيد، ولا تريده إسرائيل بحال من الأحوال ... إما ابتلاع الضربة على قاعدة “اللهم اجعل هذا بتلك”... أو المجازفة بردة فعل قاسية، تستدرج المنطقة برمتها إلى أتون مواجهة شاملة، وفي توقيت (عشية الانتخابات الإسرائيلية) قد يجهز على المستقبل السياسي لنتنياهو وحكومته وائتلافه.
لا شك أن التدقيق في عمليتي القنيطرة ومزارع شبعا، يكشف عن أن الطرفين يتبادلان الرسائل بالنار، ويتفاوضان بلغة الصواريخ والطائرات ... إسرائيل بعد عملية القنيطرة، بعثت برسائل عبر القنوات الدبلوماسية لكل من إيران وحزب الله، بأنها لا تبيت تصعيداً، ولا ترغب في حرب شاملة ... حزب الله بعد عملية المزارع، بعث برسائل عبر وسائل الإعلام، بأنه لا يرغب بدوره في التصعيد، وأن اختياره لأهداف ضربته العسكرية ومكانها وتوقيتها، إنما يأتي في هذا السياق ... والأرجح أن العالم المنشغل بحروب وصراعات وأزمات مفتوحة، لا يرغب في رؤية النار وقد اشتعلت على جبهة جديدة، قد تعيد خلط جميع الأوراق والتحالفات.
بحسابات الربح والخسائر، أقله حتى هذه اللحظة من لحظات التصعيد المتبادل، يبدو أن حزب الله يتصدر قائمة الرابحين، فهو أوفى بوعده، ورد على إسرائيل في الصميم، ونفذ عملية جريئة ... أما إسرائيل فلا شك أنها في وضع “المحرج”، خصوصاً إذا تأكدت الأنباء الأولية عن خسائر جسيمة جنودها وضباطها ... وهي باتت تدرك الآن، أكثر من أي وقت، أنها لا تتمتع بيدين طليقتين، وأن ثمة حدوداً لغطرستها العسكرية وإحساسها بالتفوق.
أما خصوم حزب الله المحليين (في لبنان) وفي بعض دول المنطقة، فلا شك، أنهم يستشعرون الكثير من الحرج اليوم، سيما أن الانتقال من موقع “الشماتة والسخرية” إلى موقع الاتهام بالتوريط والتفريط بمصالح البلاد وأرواح العباد، سيحتاج إلى “بهلوانات” وليس إلى “محللين سياسيين” ذوي صدقية ... أما نحن فما زلنا على نظريتنا التي تحدثنا عنها بعد عملية القنيطرة. والذي أكد فيها أن رد حزب الله سيأتي لا محالة، ولكنه سيكون محكوماً لمعادلة “فوق الصفر تحت التوريط”.