إن العين تدمع والقلب يحزن
ننام، ولا ننام، ونصحو ولا نصحو، فلا نومنا نوم ولا صحونا صحو، من هول ما رأينا، العالم قبل استشهاد معاذ الكساسبة، هو غيره بعد استشهاده، على ذلك النحو المتوحش، الذي لا يخطر ببال إنسي سوي!
استشهاد معاذ، ذكّرني بمشهد البوعزيزي، لأكثر من سبب، وليس لجهة طريقة الموت البشعة، بل لأن موتهما شكل علامة فاصلة، بين ما قبل وما بعد، مع الاختلاف الجذري بين من يحرق نفسه، وبين من حرقه مجرمون قتلة، بُغاة باسم الدين، يحسبون أنهم يَحسنون عملا!
استشهاد أخينا الحبيب، معاذ الكساسبة، رحمه الله، شق أرواحنا، وأصابنا بحالة غير مسبوقة من الحيرة والحزن والحنق وحتى الانفصام، ورأينا أناسا منا فقدوا توازنهم، فطفقوا يصبون جام غضبهم على الاسلام نفسه، بوصفه هو من «أنتج» البغاة، وآخرون شطوا في الدعوة للانتقام من كل موحّد لله، بغض النظر عما يحمله من وجهة نظر معتدلة، تناقض جذريا رؤية داعش ومن يناصرها ويشد على يدها، ووسط هذا الضباب، والحزن الذي يتخلل مسامات الروح، لا بد لنا من وقفات، متزنة، تحاول لملمة الجراح، وتعيد الاتزان لمن خروا صرعى تحت هول المشهد الكوني الصادم..
أولا، تبرير القتل على ذلك النحو الوحشي، اسوأ من القتل نفسه، فلا يوجد إنسي يحمل ذرة إنسانية يمكن أن يصوغ أخلاقيا ودينيا مثل هذا السلوك الوحشي، والإتكاء على فتاوى غريبة وشاذة، تبرر هذا السلوك، إهانة للإسلام، ونبيه، الذي كان منذ كان، رحمة للعالمين، وليس للمسلمين فقط!
ثانيا، دعوات مراجعة الإسلام، وليس فقهه الشاذ، دعوات مجنونة، غير متزنة، بزعم أن داعش منتج إسلامي، ما يجب فعله، هو المراجعة الذكية المنصفة للفقه الغريب، وتنقيته من كل ما علق به من فتاوى ورؤى غريبة، استلهاما لروح الإسلام السمح المتسامح، لا إسلام القتل والذبح والحرق، والانتقام الأعمى!
ثالثا، مقاتلة أي فصيل طاغ باغ، يحكمه فقه مقاتلة البغاة، وهو فقه واسع فيه تفصيل لما يجب على المسلم سلوكه تجاه تنظيم بغى وتجبر، استنادا لرؤى واجتهادات شاذة، بعيدة عن آراء سواد الفقهاء، وغالبيتهم الساحقة.
رابعا، الإرهاب، بمفهومه الذي يجري على ألسنة الناس، مارسته أنظمة، ودول، واستعمار حديث، على نحو أشد بشاعة ووحشية من كل ما فعله الآخرون، ومحاسبة تنظيم على ما ارتكبه من جنون، وجرائم، ينسحب على ما ارتكبه هؤلاء، ولم يزالوا، من قتل وحرق وسحق، وخاصة من قبل أنظمة متوحشة، كإسرائيل وامريكا، في فلسطين وغزة تحديدا، وأفغانستان والعراق واليمن، وغيره، لأن الإرهاب هو إرهاب، سواء مارسه تنظيم أم دولة!
خامسا، أما نحن في الأردن، فجرحنا بليغ، وحزننا بلا حدود، على ما أصابنا، في مُصابنا، وكم نحتاج في هذه الأيام الصعبة للحكمة، والتروي، والاصطفاف صفا واحدا، متحدين متكاتفين، قيادة وشعبا، لمواجهة هذا الحزن الكبير للحفاظ على بلدنا وأمنه وتماسك مجتمعه، دون غلو أو تطرف أو مبالغة في رد الفعل، غير المحسوب بعناية، والموزون بميزان الذهب، فظاهرة التكفير اللعينة التي ضربت الأمة، ليست ظاهرة أردنية، وليس مطلوبا منا استئصالها نحن فقط، بل بالتعاون مع الأخيار، ضمن قيم الإسلام السمحة، والمصلحة الوطنية، التي تحفظ بلدنا، وتجنبه اي مخاطر..
إن العين تدمع والقلب يحزن ...
ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا معاذ لمحزونون..