لبيب الخضرا... طريقك ليست خضرا
أتعبتني طريق "ليست"، وضعتها، فحذفتها، ثم عادت بقوة أمامكم، فتغيير معنى دعوة والدية طيبة بهذا الشكل يبدو عملا "صادما" و"قاسيا" لوزير جديد يشق طريقه نحو أول موقع وزاري له، ومعاكسا لأهدف قطاع التعليم العالي الذي يحرص على زرع الأمل في نفوس النشء بالرغم من المعيقات، ولكن من قال: إننا لا نعيش وقع الصدمات الكبرى في هذا القطاع الحيوي منذ أكثر من عقدين من الزمن، الذي مسه "الركود" فأوقف تقدمه، وكيف اختار البعض طريق التراجع ومسار الانهيار لقطاع كان من أنجح القطاعات الوطنية الأردنية! وكان مصدر فخرنا وثروتنا، وكنا من الأوائل على مستوى المنطقة، فمن علمناهم سبقونا، وأصبحنا نصفق لنجاحهم ونندب حظنا العاثر.
ما نقوله بـ"قسوة"، قاله كثر بـ"دبلوماسية"، فالأكاديمي عدنان بدران، وفي حفل منحه الدكتوراه الفخرية في جامعة اليرموك، يقول حول أفضل طرق إصلاح التعليم "العودةُ إلى ما كان" في عقد الثمانينيات وما قبله، بمعنى أن معظم الطرق التي سلكت لتطوير التعليم العالي بعد ذلك الزمن، أما أنها "غير موصلة" للهدف أو أنها "سوداء" كالحة، والسياسي الأكثر حنكة محلياً عبدالرؤف الروابدة، وفي حفل منحه الدكتوراه الفخرية من اليرموك أيضا، يتذكر مشاركته بتأسيس جامعة اليرموك "دون وجود مبان، ولا مدرسين، ولا كتب" خلال (6) أشهر عام 1976، لكنه "لا يخص" الجامعات بأي اعتراف.
بدورها في "مؤشرات الإطار العام للسياسة الأردنية" أي ما يمكن تأويله بضعف دور الجامعات في التنمية والتحديث بالشكل المرغوب، فكيف نتحدث عن تصنيف عالمي، والمسؤول المحلي "جدا" غير مقتنع بدور ومهام جامعاته. ولم تنل منه الجامعة التي كرمته أو غيرها سوى عبارات الثناء التقليدية "منارة علم، ونبراس إبداع، وعنوان حضارة".
نعود إلى وزير التعليم العالي الجديد، فبالرغم من خروجه من مكتبه إلى جامعة الطفيلة، وتقديمه تصريحا مشجعا حول انحراف الجامعات التقنية عن مسارها من التعليم التقني للتعليم النظري، لكن ألم يلحظ الوزير أن معظم الجامعات الرسمية "انحرفت" عن مسارها في بناء الوعي الوطني القائم على العلم، والقيم، وسلامة التفكير العلمي، التعليم النوعي، وتخريج الكفاءات، والمساهمة في التنمية الوطنية بشكل جوهري إلى أعمال أقرب ما تكون إلى "التجارة" "الشعبية" بوضع تسعيرات متعددة لرسوم الساعات، وطرح برامج دولية وموازية بأسعار حسب الزبون، واستحدث التخصصات.
بدون دراسات كافية للسوق، واختيار أسماء براقة لها خاصة في مرحلة الدراسات العليا حتى مع عدم وجود عدد كاف من الأساتذة كما تقول هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي!. لكن الانحراف الأكبر كان بالبعد عن منهج التفكير العلمي، وسيطرة الـ(فكر التقليدي، التلقيني، السمعي، اللفظي) على الجامعة، والذي يمكن وصف بالـ"سلفي الأكاديمي" أو "العشائري/المناطقي/الشعبي-الأكاديمي"، بعيدا عن إعمال العقل النقدي والإبداعي والتحليلي لا في التدريس، ولا في البحث، ولا في الإدارة التي تقوم على المحاولة والخطأ أو الارتجال أو تجنب الضغوط الاجتماعية، أو تسيير الأمور اليومية الروتينية.
فمن يريد أن يقف على "طريق" صلبة في "تصحيح" الانحرافات والمخالفات الجسيمة في التعليم العالي والجامعات، ويشق طريقا جديدة و"خضراء" في تجويد العمليات التعليمية وتحسين نوعية المخرجات لا بد أن تكون لديه سوابق وشواهد على ذلك، وهنا لا نلحظ على مسيرة الوزير الجديد ذلك، فالوزير أكاديمي وفقط، ومهذب، ومتمكن ربما من أكثر من لغة من بينها الألمانية، ولديه خبرة واسعة بالتدريس الجامعي والبحث العلمي، والرئيس المؤسس لجامعة نخبوية (الجامعة الألمانية-الأردنية). ولكن كيف سيدخل الرجل في عمق قطاع من أهم القطاعات الخدمية والتنموية بدون خبرات بارزة في مجال إدارة الإصلاح، وخبرة عامة وحكومية تتيح التعامل مع الإدارات المختلة بأساليبها المتنوعة، وصلابة لا تقبل بالحلول الوسط الذي أربكت القطاع، وأضاعت الفرصة تلو الأخرى دون أي أثر ملموس لعشرات الاستراتيجيات.
نتمنى للوزير الجديد كل نجاح وتوفيق، وندعو له بدعوة الأمهات "أن تكون كل طرقه ميسرة وخضراء"، لكن من قال: بالأمنيات والدعوات وحدها تتحقق الأهداف وتجابه التحديات، بدون عمل جاد ومضني ومتراكم على الأرض؛ لذلك لا نستبشر كثيرا "بطريق الوزير الجديد" ولا نرى فيها أثر للخضرة بالرغم من أن الربيع يغطي المكان.
وما قام به في تأسيس ورئاسة جامعة نخبوية صغيرة بدعم ألماني عمل جيد، ولكن لا تستطيع أن نُعمم نجاحه هنا، على (10) جامعات رسمية، و(20) جامعة خاصة، فالجامعة الألمانية-الأردنية لا يتجاوز عدد طلبتها -حاليا -الـ(4) آلاف طالب تساوي كلية "مرغوبة" في إحدى الجامعات الرسمية الكبرى المكتظة بالطلبة، وتعاني من ضيق الغرف الصفية، وقلة الأساتذة، وضعف البيئة التعليمية.
كما أن الجامعة الألمانية كانت جامعة "مستثناة من القبول الموحد" وتقبل بشكل مباشر ضمن شروطها ومعاييرها، وهذا لا يتحقق لأي جامعة رسمية أخرى، فكيف سيتعامل كوزير مع الزيادة الهائلة في أعداد الطلبة المقبولين في الجامعات الرسمية مقابل إغلاق منافذ التعليم العالي المتاحة سابقا (إغلاقا تاماً) في وجه الطلبة الأردنيين؟ مما يعني مزيدا من الاكتظاظ في القاعات الصفية التي تجري فيها العملية التعليمية أساسا.
ربما توزير الرجل للاستفادة من خبرته لتأسيس جامعة صينية-أردنية، وأخرى فرنسية-أردنية، وربما ثالثة أجنبية-أردنية، جامعات نخبوية صغيرة وبعيدة عن السياق العام الوطني، يستفيد منها طلبة بعض المدارس الخاصة الأغنياء الذين يتقنون اللغات الأجنبية ويملكون ثمن تذاكر السفر للخارج، ولا تؤثر في مسار التعليم العالي الأردني بشكل كبير، وهنا لا ننكر أهمية الاستفادة من الخبرة العالمية في تأسيس جامعات جديدة، ولا دور تلك الجامعات في تحسين مستوى التعليم العالي الأردني، ولكن الأمر الملح الآن هو إيقاف مسلسل تراجع التعليم الجامعي في الجامعات الأردنية الرسمية الموجودة التي تستقطب نحو (225) ألف طالب، وهذا العدد الكبير بحاجة إلى اهتمام خاص وكبير ومخلص، وكذلك (7) آلاف أستاذ جامعي يحتاجون إلى دعم مالي ومعنوي وبيئة تعليمية مناسبة وتخفيف الأعباء عنهم، وتحسين كفاءة بعضهم.
وكيف سيتعامل الوزير الجديد مع القضايا المؤثرة حاليا في الساحة الإقليمية كتزايد خطورة الحركات المتطرفة والإرهابية التي تستغل الدين، وتشكل خطرا رهيبا على مستقبل طلبة الجامعات، وتعمل على استقطاب بعضهم، ودور الجامعات في تنوير العقل مقابل سيطرة النقل والتلقين، وتراجع مستوى الجامعات الأردنية مقابل صعود الجامعات الخليجية والآسيوية، وتدني مستوى خريجيها كما أظهرت نتائج امتحان الكفاءة الجامعية. يبدو أن الوزير الحالي استمرارية للوزير السابق مع ميل السابق الواضح لخصخصة الجامعات وتقديمه لأنصاف الحلول.