دوامة من التناقضات الجذرية
لم تعد القضايا التي تعيش أحداثها وتعاني من تداعياتها وسوء آثارها وطبيعة تحالفاتها المنطقة العربية وجوارها الجغرافي وارتباطاتها البينية و الإقليمية والدولية من القضايا التي يمكن فهمها في مبادئ علم السياسة وعلوم الاجتماع والروابط الوشائجية والدينية وتداخل انتماءات مكونات كل منها العرقية والعقائدية.
فقد أربكت تلك الأحداث العامة كما أربكت عتاة الساسة ومشاهيرالتحليل الاستراتيجي ونجباء دارسي التقلبات المستمرة التي تحملها العلاقة بين السياسة وبين الاقتصاد,وهاك عجز يكاد يكون شاملاً للاتجاهات التي تأخذ الآحداث خلالها مساراتها.هذا على الرغم من أن القضايا الأساسية التي تشكل القاعدة الكبرى المحفزة لتلك
الأحداث ليست في واقعها معقدة على الإطلاق,وهي على العكس من ذلك, مقروءة قراءة جيدة في المناهج الجيوسياسية,وفي المصطلحات السوسيو – اقتصادية,وواضحة المعالم في طبيعة النظم القائمة في عواصمها,وما زالت أحداث التاريخ التي مرت بها هذه الدول وعواصمها حية وماثلة أمام كل قارئ,ويسهل فهمها على أمي القراءة إذا استمع لمن يقرؤها على أسماعه.
مما لا شك فيه التفاوت الشاسع بين طبيعة النظم القائمة وتشكيلاتها في كل منها,وهذا يقود بطبيعة الحال إلى تفاوت مماثل,بل وأكثر تناقضاً في تحديد مصالحها وفي رؤاها الاستراتيجية وفي مناهجها السياسية,وفي عناصر أمنها الوطني والقومي ومحدداتهما,وفي علاقاتها الدولية واتفاقياتها الاقتصادية والتجارية والأمنية والعسكرية.وإذا بدأنا من آخر هذه العناوين الرئيسة, نجد إن معظم دول المنطقة مرتبطة بروابط تختلف في
متانتها وفي آفاقها العسكرية والأمنية مع الدول الغربية بعامة ومع الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص ومتميز,فعلى سبيل المثال,ما يربط الاحتلال الصهيوني بأميركا رابط مصيري,أي اعتبار أمن العدو الصهيوني من أمن الولايات المتحدة,والغرب داعم دائم ومباشر لهذه العلاقة الترابطية الأمنية وما تستتبعه تلك العلاقة من أنشطة تجسسية وعدوانية وبلطجة على كل القوى القومية والوطنية التي تحمل عقائد تحررية من ربقة الاستعمار والتحكم في استقلال قرار الوطن ووحريته في وضع سياساته المتماهية مع مصالحه المحققة لآسباب أمنه القومي.
أما الدول المتشكلة بصيغة العائلة – الدولة,فهي كنز لا ينضب,عدا عن كونه مصدر الطاقة المحركة لتقدم الغرب وتفوقه في كل المجالات بقيادة أميركية للغرب ولأميركا.فهي سوق استهلاكي مغر ومجد لكل السلع الأنجلو – أميركية,بما فيها المباغ الطائلة تبتاع فيها الأسلحة بكميات كبيرة بمليارات الدولارات,وهي موطئ قدم دافئ للقواعد العسكرية ومخازن أسلحتها وطرق بحرية آمنة ومحمية حماية كاملة.والشعب فيها باسثناء بعضها,يعيش حياة استهلاكية مترفة,وتعتمد على استيراد مظاهر التنمية فكراً,وعلماً وعلماء,ومكونات مادية وأدوات تطبيقية,وخبراء,عمالة وافدة من مختلف أنحاء العالم النامي,أي تنمية ظاهرية يمكن شراءها
وتستعصي إعادة توليدها أو مهارات تشغيلها أو تطويرها.وهي دول لم تعد بها حاجة إلى دستور,واكتفت بصيغ مملوكة بالكامل للعائلة الحاكمة,كما هي حال كل الدول الأخرى,التي تعمل نظمها من خلال تشريعات دستورية متنوعة.ومنها دول ثيوقراطية وإن بدرجات متفاوتة من أساليب الحكم التي ميزت سياسات الإمارا ت العربية المتحدة والبحرين.
الحكم في الأردن والمغرب يقع تحت تصنيف العائلة النظام,وهو نظام معروف في دول أخرى أوروبية وغير أوروبية,وإن كان مقدار الزخم الديمقراطي فيهما ما يزال بحاجة إلى المزيد من التحول نحو الديمقراطية التي ترتكز على دعائمها من الحرية والتعددية لتتشكل دولة الديمقراطية .الحرية .التعددية المستقرة سياسياً النشطة في تفاعلها مع القضايا الوطنية والإقليمية والدولية.وقد استطاعت تونس أن تسترد ليبراليتها وعلمانية منهجها الاجتماعي – السياسي.ويمكن القول أن علاقات المملكتين مع الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية,علاقات وثيقة كما هي مع دول الخليج العربي,وكانت على الدوام متأرجحة بين المتانة والضعف والقطيعة أحياناً مع كل من مصر وسوريا.
وما زال الحديث عن مستقبل ليبيا واليمن بحاجة إلى حسم,فالأولى تعاني من صراع,بعد أن دمرتها قرارات الجامعة العربية وجيوش حلف الناتو,بين قوى طامعة,تعاونت مع العدوان الغربي – بعض العربي, في الحكم بالقوة وفرض نوع الحكم على شعبها,وجيش همشه النظام السابق ويحاول استعادة بناه بجهد مضن.
ظل الدور التاريخي للحفاظ على معنويات الأمة,والحفاظ على كرامة المواطن العربي,ونهج السياسات المستقلة,ورافعة الوجود الفعال للأمة,ممثلاً بمصر عبد الناصر وسوريا القومية النهج والمبادئ.وقد تمكنت مصر ,كما تونس من استعادة النهج الوطني المنفتح على العالم وعلى مكونات المجتمع التعددية وريثة
الحضارة العريقة من قبضة الإخوان المسلمين وداعميهم من السلفيين الذين أثاروا العداء لكل ما هو سولهم من بشر ومن إعلام ومن أحزاب ومن أديان ومن مذاهب,روعت المواطنين وأدخلت مصر في حشد مبايع للغرب وسياساته عرفاناً بجميلهم على تمكينهم من الحكم.
وهناك دولة واحدة وهي تركيا العضو غير الأوروبي في حلف الناتو (فشلت كل محاولات تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي,وزادها صعوبة سلوك الرئيس أردوغان,الذي يبحث بحكم انتمائه لمنهج عقائدي إخواني عن استعادة السلطانية العثمانية.) والتي انتهجت في تشريعاتها المبادئ العلمانية بعد أم قاد البلاد مصطفى
أتاتورك المتعصب للطورانية,وبدأت سياسات أردوغان وتعديلاته التشريعية تعود بتركيا إلى سابق عهدها العثماني بقيادة استئثارية استبدادية.وهي دول تتبع المذهب السني.
إيران دولة تعلن أنها جمهورية أسلامية,مقيدة بالإرشاد من المرشد الأعلى وطاقمه,وهي ثيوقراطية مرنة إلى حد ما,وتدار برؤساء منتخبين,وهي دولة إسلامية تتبع المذهب الشيعي,وتعمل على تصدير الثورة التي أوصلت الإمام الخميني للحكم,فوجدت الساحة العربية ميدانا متاحاً مباحاً مباشراً لدعواتها المذهبية.
نصف هذا التناقض الصارخ بين طبيعة النظم الحاكمة في المنطقة بمكوناته الإفريقية والأسيوية بالجذري ,لأنه قبل كل شيئ يربط الأمن الوطني بشخص الحاكم ,ولأنه لم يمنع تقاتلها فيما بينها المباشر نيابة عن رغبات أجنبية ودفاعاً عن مصالح أجنبية,ولإنها أيقظت الصراعات الطائفية والعرقية والقومية بحجج واهية وحماس منقطع النظير,ولأن بعضها يدفع مليارات الدولارات لتسليح المرتزقة لقلب أنظمة الحكم في غيرها من
أقرانها,ولأن هناك أطماع خفيه للبعض منها في دول تشاركها عضوية مجلس أو تحالف, لإنه كما هو معروف من سلوك كل نظام تجاه شعبه وتجاه جواره وتجاه أي نظام آخر,فإن ما يمكن من العناصر أو المصالح أن يجمع بينها يتلاشى تأثيره فور تشكله,ويكون عادة جمعاً تجمعاً ظرفياً مؤقتاً. ومما لا شك فيه أن هذا التناقض ترك تلك الدول نهباً للفوضى والضياع,وانتزع كل محفزات التحضر من مراسيمها ومواقفها ومناسباتها ومنجزاتها.