حكاية عربية
ندرة بين العرب تكتب سيرتها الذاتية، والندرة تكتب ماتريد، وتترك مالاتريد، وبين الزعماء العرب، والشخصيات الاعتبارية، في مشرق العرب ومغربهم، ندرة ادركت سر ومغزى روايتك لحكايتك باعتبارها بعض حكاية الكل ايضا.
قلة من هؤلاء ادركت ان السيرة الذاتية ليست شخصية، بل تؤرخ لمرحلة تخص الامة، او بلدا عربيا ما، فهي ليس مجرد تدوينة قلم، انها تأريخ لمرحلة، خصوصا، اذا قرر الراوي هنا، ان يروي كل الحكاية، دون حب فائض، اوخصومة مع احد.
بين السير الذاتية التي اعشق قراءتها، سير قليلة حفرت اثرا، ومن هذه السير سيرة خلف احمد الحبتور، وهو شخصية اماراتية معروفة، لكنها جسرت بين محليتها وعالميتها، بطريقة وازنة، فالرجل له قدره في الامارات، مثلما هي قيمة علاقاته في العالم ايضا، ولعل الصور المرفقة مع سيرته فيها حكاية بحد ذاتها، لانه يقول عبرها كل شيء، من طفولته العادية جدا، الى وصوله الى مكانة اعتبارية مهمة، اذ إن انتقائية الصور ذكية جدا، لانها تريد ان تقول انه كان بسيطا جدا، وبات شخصا لامعا.
قرأت السيرة واعجبتني جدا، لغتها، وطريقة اختيار الافكار والذكريات والمحطات، ثم الصراحة غير العادية، فنحن امام رجل شغوف بالقول لك انه ينجح ولاينجح، وانه ايضا مستبصر ومستنير، والا كيف يمكن لرجل مثله في العالم العربي، ان يدرك مبكرا قيمة العالم، والاتصال بالشعوب ونخبها، وربما هي «دبي» التي حفرت في اهلها سمة مهمة، اي الانفتاح على الاخرين، والسماحة والرزانة والهدوء، وعدم التعصب، والتشنج.
خلف احمد الحبتور في سيرته يروي بعض حكايته، كيف اصبح رجل اعمال ناجحا في هذه الحياة، وكيف واجه مصاعب كثيرة، وهو لايخلو من سياسة، اذ ان علاقاته الدولية والسياسية معروفة، ويتسم بصراحة غير معهودة، في تعبيراته التي نراها في مقالاته التي ينشرها، وطالما حذر سابقا من اخطار محددة، سابقا الجميع، مثل «ملف ايران» وقد بتنا نرى كل ذلك حقيقة اليوم.
يروي لنا الحبتور ذكرياته في الامارات، وفي كل محطة من محطاتها، محطات النشأة والتحول اليوم الى دولة بارزة، ثم اسفاره وحكاياته، وعائلته واولاده، ومراسلاته مع زعماء الدول، وترى في مذكراته قلبا عروبيا مشرقيا، لكن عقله منفتح على العالم، وليس اسيرا للشرق بمعناه الضيق الذي يجعل بعضنا لايرى غيرنا في العالم، باعتبارنا خير امة اخرجت للناس في الدنيا والاخرة وبقية العالم اتباع لنا.
Maherabutair@gmail.com اعجبني كثيرا في سيرته الذاتية انه اخفى عامدا حكايات يده البيضاء، وهو معروف عند كثيرين بأنه يحسن للفقراء والايتام وغيرهما، وكان لافتا للانتباه لي، انه تعمد الا يمنح هذا الجانب اي اشارة واضحة، لانه هنا يفعل كل ذلك لله وحده ولايريد دعاية ولا اشهارا، ومروياته بحد ذاتها، تتجنب سمة الفوقية عموما.
في كل جمعة نصلي في مسجد عمر بن الخطاب في دبي، الذي بناه الحبتور، بكل هدوء، وكنا نرى في رمضان كيف يفطر الالاف على نفقته، متجنبا ان يكون لهذا الجانب في شخصه، اضاءة، فقد اختار السر على العلن؟!.
خلف الحبتور، من الشخصيات العربية الاعتبارية، وبيننا في العالم العربي شخصيات محدودة من هذا الطراز، شخصيات خبرت المد القومي، وخبرت ايام النشأة والتحول الى دول قوية، وما بيننا اليوم، في اغلب العالم العربي، خسارة متوالية لهذا الجيل، نحو توليد اجيال اخرى، تتسم بكون رموزها بسيطة، تكاد تكون رموزا لحارات وازقة، فالعرب لم تعد لديهم القدرة على انجاب اسماء لامعة في كل مجالات الحياة، وننقلب يوما بعد يوم، الى اسماء من الصف العاشر، تأثيرها لايتجاوز محليتها البحتة، واقل من محليتها في حالات كثيرة. لأجل هذا نشجع بكل صراحة كل الشخصيات الاعتبارية العربية الكبيرة ان يفعلوا مثل رفيقهم الحبتور، والا يقبلوا بالضآلة، لانهم هنا يتركون مثلا لامعا لامة بأكملها، حتى تسترد عافيتها مع الرموز المؤثرة والمحرضة ايجابا، بدلا من تناقص معنوياتها امام التراجعات، ونريد حقا ان نسترد القدرة على توليد الاسماء الكبيرة، من السياسة الى الرياضة مرورا بالاقتصاد والفنون وغيرهما، فهذه الاسماء تقود جمهورا بدلا من تيه الجمهور في سيناء الصراعات والكراهية.
تستحق سيرة الحبتور القراءة، ليس تملقا ولامجاملة، لكنها سيرة جميلة من حيث تبويبها وانسيابها والافكار المنثورة هنا وهناك، ولا احسد رجلا الا ذاك الذي يتحدى كل من حوله وحواليه وثقافتنا العامة ايضا، فيصدر سيرته الذاتية وهو في عز قوته، بعد ان سادت بيننا فكرة تقول، ان السيرة الذاتية تصدر فقط عند التقاعد او يصدرها الاحفاد اكراما لرموز لم تعد موجودة، وهي ثقافة انتحارية، تؤشر -ايضا- على اننا نفهم الحياة باعتبارها محطة تافهة، على عكس كل الامم، وهذا يأخذنا الى الهوان والضعف ومانراه من سلبيات في حياتنا، بذريعة ان الاخرة وحدها اهم!.
سيرة خلف احمد الحبتور، ليست مجرد تدوينة شخصية لعابر سبيل عربي، اذ فيها حكاية عربية عن تواقيت سابقة ومازالت ماثلة الى لحظتنا هذه بكل تأثيراتها.