سقف سياسي
يشتد الغضب العربي، على اسرائيل، في بحر يومين فقط، اثر حرق طفل رضيع في نابلس، والكل يهدد ويتوعد، وكأن ماقبل ذلك كان سمنا وعسلا. هذه آخر الجرائم الاسرائيلية، اذ قبلها اكثر من ستين عاما من الاحتلال، وتشريد الملايين، وقتل وجرح مئات الالاف، فوق سرقة الارض، وفتح السجون، وتقطيع المدن، وتهويد كل موقع، والتخطيط لهدم المسجد الاقصى واستباحته الف مرة.
يغضب النظام الرسمي العربي فجأة؛ لان الشهيد طفل رضيع، ولم يكن في عملية انتحارية، ولم يطلق رصاصة على اسرائيل، وكأن النظام الرسمي العربي يقول، إنه ماعدا هذا النوع من الجرائم، فكل شيء آخر غير قابل للإدانة او التجريم. منتهى التفاهة السياسية، إذ إن العرب تركوا الاف القصص والشواهد، التي ابرزها جريمة الاحتلال ذاتها، ويريدون تبييض سمعتهم عن طريق الرضيع الشهيد. الاصل ان الغضب لايكون انتقائيا، ولاموسميا، فماذا نقول عن ستين عاما من القتل المتواصل، جسديا ومعنويا، ماذا نقول عن كل الضحايا الذين نعرفهم ولا نعرفهم جراء الاحتلال الاسرائيلي.
اذا كانت هذه سياسة، فهي سياسة مخزية، والسبب ان العرب بغضبهم الرسمي يضعون هنا سقفا لردود الفعل، فأي شيء قد يتعرض له الفلسطيني لن يؤدي الى الغضب، باستثناء ان يكون المرء رضيعا او طفلا وفي حالة نوم، ولحظتها من الممكن ان يتحرك العرب دون حرج، ودون خوف من ان يتهمهم احد بدعم الارهاب او تبني اشكاله. هو سقف سياسي اذن، يتم اشهاره بطريقة ذكية، ضمن معايير معينة وشروط معينة، وغير ذلك يكون الفلسطيني هو المجرم والمتهم. لاجل هذا سارع العالم -ايضا- الى ادانة الجريمة الاسرائيلية، لانه اولا يمكن الدفاع عنها، ولانه يريد ان يقول بشكل غير مباشر ان هذه هي النوعية وحدها من الجرائم الاسرائيلية التي يمكن الوقوف بوجهها او ادانتها. غير ذلك من قصف بيوت الابرياء وقتل الناس خلال عمليات عسكرية، وتصفية الالاف، وسرقة الارض، وتشريد الملايين، والقتل في كل مكان، امر غير مدان لان اسرائيل تدافع عن نفسها في هذه الحالات.
حالة الطفل هي الوحيدة المحرجة لاخلاق العرب والعالم، لانه ما من مخرج عالمي او اسرائيلي، يمكن من خلاله تجريم الرضيع، وهي حالة -ايضا- يتم توظيفها بانتهازية شديدة للقول للشعب الفلسطيني ان هذا هو السقف السياسي المتاح لرسم ردود الفعل، اي حالة الطفل الرضيع الذي لايرمي حجرا ولا ينضم لتنظيم، ولا يلقي خطابا في مظاهرة. فقد العالم اخلاقه، ويبيع علينا هذه الايام، ماتبقى لديه من اخلاق وشرف، في سياق تبييض سمعته، وسمعة الساكتين على اطول جريمة في العصر الحديث.