بحبّ أسمع
كنا سعداء طيلة الشهر الأول من الفصل الأول، نفتح حقائبنا ونخرج دفاترنا ونبدأ بنسخ ما يكتبه المعلم على اللوح بالنقطة والفاصلة والرقم وإشارة الحساب، حتى «...» المكتوبة بمحاذاة السبورة كنا ننقلها خطأ على دفاترنا لاعتقادنا انها جزء من حل المسألة الطويلة...لم نكن بحاجة الى النقاش او فتح القلوب لبعضها..هو يرسم ما يراه مناسباً ونحن نسير على بركة الله..
ذات يوم طلب المعلم أن نطوي دفاترنا وكتبنا ونضعها في الحقيبة ، تمشّى قليلاً بين المقاعد ، ثم اختار المقعد الأول في الشق الأوسط من الصف، وضع رجله على مكان جلوس أحد الطلبة الغائبين ،ثم ركّز العصا تحت ذقنه وبدأ يتكلّم بصوت خافت...» اليوم فيش حصة...اليوم بحبّ اسمع منكم.. شو رأيكم في وبأسلوبي بالقراية».. لم يستوعب معظم الطلبة ما يريده المعلم منهم... فأعاد الفكرة وأعاد معها ترتيب الجمل...»انتقدوني.. بحب اسمع...احكوا أي شي مش عاجبكم بحصتي... تستحوش..»... لكن الطلاب لم يستوعبوا كمية الحرية المتدفّقة اليهم من صوت المعلّم... فمنذ ان التحقوا بكتيبة الأبجدية وهم ينفذون الأوامر وينسخون الدروس ويحضرون الواجبات.. لم يعتادوا على النقاش...عاد المعلّم مرة أخرى ليطرح فكرته..»سيدنا عمر بن الخطاب قال: رحم الله من أهدى اليّ عيوبي...» وأنا بحب أسمع منكم عن عيوبي.. عادي احكوا... قولوا شو سلبياتي.. شو أخطائي..».. تململ بعض الطلاب المتملّقين وبدأوا بالمديح» والله انت أحسن استاد»...» يا بي قديش بنحبك»..»بحياتنا ما حبينا المدرسة الا لما اجيت يا استاد.. بنموت ع حصتك»... وهو يغمض عين ويفتح الأخرى مستمعاً الى كم المديح الكبير لكنه ما زال يبحث عن ضالته... ضرب بعصاه الدرج.. وصاح «بس عاد»..!!.. تنفخ بطريقة مصطنعة وأبدى انزعاجاً مفتعلاً ثم قال: «أنا ما حكيت تمدحوني... أنا بدي تنتقدوني... احكوا اللي بقلبكو عني.. ما رح أزعل... بحب اسمع «.. صمت الصف وخفتت أصوات التملّق من المقاعد الأمامية... ثم قال: يا الله.. وين الشجاعة..!!... وين «الزغرتيه» اللي بينتقدوا وما بيخافوا الا من الله... لم يجب أحد وبدأت العيون تجول بنظرها كل زميل يرشّح الاخر... بعد ثواني نادى المعلم بصوت حازم..»إحمد»!!... عدّلت من وضعية الجلوس... فأشر لي بإصبعه ان اقف أمامه وأمام جميع الطلاب... خرجت من مقعدي ووقفت أمامه.. ثم قال لي :» يا الله انتقدني..»!! لم أدر ماذا أفعل ابتسمت واحمرّ وجهي وغطيت فمي بكفّي.. ثم عاد وطلب: « با الله ولك انتقدني..» تشجعت وقلت له بعد شهيق قصير: بتحكي بسرعة... وبتفهمناش مليح... وبتزاوغ مع قرايبك!... وما ان انهيت كلامي حتى طار «ابزيم» البنطلون... واختلطت الصورة فجأة رأيت زميلي «قاسم» الذي كان مبتسماً مكان المجرود... وأسنان «نواف».. مكان مساحة اللوح مع طنين شديد بأذني تشبه صوت طرق الصنجات.. أنا متأكّد أن «شحمة أذني» ارتطمت بفمي من قوة الكفّ... لأن شيئاً طرياً لامس فمي للحظات واختفى.... وبذلك أكون أول من حل لغز الأحجية الخالدة «يتقدر تبوس اذنك»... أنا بُستها.... طبعاً كل ما حدث خلال ثوان قليلة... تبعها صوت مزلزل...»اطلع برّة يا حيوان... قال بَحكي بسرعة... وما بفهمّش !! اذا انت حمار انا شو أسوي»... وأنا أهرول تجاه بوابة المدرسة سمعت صوته ينبثق من الصف: « مين قرايبي اللي بغاوز معهم يا حشرة..».. قال بحكي بسرعة قال..!.. حاول آذن المدرسة ان يمنعني من الخروج.. ولأنّي كنت أعاني من خدر نصفي.. قلت له: «نسيت كبسة البنطلون بالدار» فسمح لي بالمغادرة لأسباب إنسانية... ومنذ ذلك الحين وأنا أفهم معنى « الرأي والرأي الآخر جيدا».. وبحب اسمع بأذني الشمال بنفس الوقت !.