الجائع
((( عائلة اردنية بلا طعام منذ اربعة ايام ". جريمة غير قابلة للتبرير. الجريمة الاكبر متاجرة نخب فاسدة مُفسدة بفقر الفقراء لتحقيق مكاسب شخصية،وتحويلهم الى مادة اعلامية للضغط على الحكومة،و استغلال المأساة لتحقيق شعبوية رخيصة . الخطة شحن العامة اليوم وكسب اصواتهم غداً. نخب تخلت عن القيم و باعت المباديء بثمن بخسٍ لتحقيق مآرب ذاتية دنيئة على حساب المستضعفين. اهلي الفقراء ليس لكم ـ والله ـ بعد الله الا الوعي اليقظ العميق لما يحاك لكم من تجار السياسة والسلع و اصحاب القرار ـ اهل الجباية والرفع ـ. جميعهم ينتهجون نهجاً واحداً لإستعبادكم. كلهم ـ بلا استثناء ـ مؤمنون ان الفقير لا يعترض ولا يعارض مهما سِيمَ من ظلم و ضيم،ولا يقاوم لو رُكب لانه ذلول واطيء الظهر،سهل الانقياد يُجر مثل خروف لحفل شواء على جمر مناقلهم وقرع كؤوسهم...اما اذا اسقطتم هذه المعادلة الساقطة،تساقط الساقطين كاوراق رزنامة انتهى زمنها،و اصبح تاريخها خارج التاريخ لان تاريخها مُخجل.نخبة تشبه تماماً غدة " البروستات" فهي تعمل عكس بقية اعضاء الجسد التي تضمر وتنكمش كلما اوغل في العمر الا البروستات فانها تتضخم وتصبح مستودعاً للاورام الخبيثة... إستئصالها في الحالة الاردنية للخلاص منها يكون بالمنشار لا بالمنظار )) .
*** تأبط جوعه المزمن خارجاً من قاع المدينة الى وسطها للبحث عن موقع استراتيجي لأستجداء ثمن وجبة طعام .القى عصا ترحاله على تقاطع طرق حيوية عند إشارة ضوئية ، تتفرع منها ثلاثة شوارع حيوية مزدحمة بالسيارات والمشاة.وقف كسيراً النفس،مكسور القامة كشجرة باسقة ناءت بحمولتها من ثلوج تراكمت عليها حتى قصفتها.لم يبق منها سوى ساقها.مدّ يده المعروقة المرتجفة.احس بدوار كاد ان يقع على الارض.لم يدر سببه أهو الجوع ام انها المرة الاولى التي يقف فيها مثل هذا الموقف المهين ؟.فلاشيء يحط من كرامة الانسان اكثر من الفقر،ولا يكسر قلبه كالحاجة الى الناس. طالت وقفته دون ان يتوقف عنده احد،او يتعاطف معه عابر سبيل بنظرة تشعره بآدميته.الكل مشغول بنفسه. تراهم يتراكضون كأن وحشاً يطاردهم او يغذون الخطى خوفاً ان يفوتهم مدفع افطار رمضان قبل ان يتربعوا امام المائدة التي ضاقت بالاطباق مما لذ وطاب. خارت قواه من شدة جوعه والتعب،ولم ينقده احد مليماً. قرر شد الانتباه و إستدرار الشفقة بالعزف على وتر الرحمة. اخذ يردد بصوت جريح مخنوق،كانخطاف صوفي لحظة تجلي : " الراحمون يرحمهم الله ...الصدقة بعشرة امثالها يا عباد الله" ! .
لكن دون جدوى.المنحوس في الحياة... منحوس في الشحدة . انتابه شعور انه وسط مقبرة دارسة بلا شواهد،وليس في مدينة حية نابضة بالحركة.ايقن يقيناً لا يساورة شك، ان المارة "خُشبُ مسندة"، لا يحملون اجساداً حية تفور بمشاعر انسانية،بل يتحركون في توابيت داخل " انواتهم" الضيقة،ولا يرون سوى انفسهم من خرم ابرة صدئة. سحت من عينه دمعة ساخنة. احس بلسعتها على طرف فمه.لحسها بطرف لسانه ثم بصقها لـ "ملوحتها الكاوية" . تذكر قول آلهة بابل الاسطورية وهي تخاطب بطل اسطورة جلجامش العراقية : ـ " كُلْ الخبز يا انكيدو فانه طعام الفقراء وبهجة الحياة ". سأل نفسه لكن اين هو الخبز ايتها الآلهة ؟! .
انفجر ضاحكاً عندما خطرت في خاطره كلمات الملكة ماري انطوانيت،قائلة باستغراب للحاشية ردا على مظاهرات الجموع الحاشدة المطالبة بالخبز: " لماذا لا يأكلون البسكوت ". ضحك اكثر من دعوة نائب رئيس الحزب الليبرالي الروسي السياح الروس الى مقاطعة الشاورما التركية رداً على اسقاط طائرة السوخوي. وقف حائراً بين اسطورة الخبز وحلم البسكوت،ولعبة السياسة في سندويشة الشاورما.تساءل الى اين يذهب امثالي في مدينة لا قلب وليس فيها ذرة رحمة ؟!.
فالقلب الذي لا يعمره الخير "خرابة "لا يصلح سوى مكبٍ للزبالة.ليس هناك مستحيل في الدنيا.المستحيل ان يحصل الجائع الفقير على وجبة دافئة في هذه المدينة القاسية،كإستحالة ان يحل "بابا شيوعي" مكان "بابا الفاتيكان الكاثوليكي" او ان يحكم رئيس عربي بلاده من دون ان يترك الكرسي الى المقبرة،او يغادر وطنه من دون ان يجعله قاعاً صفصفا ؟!. غطس في الاماني ليخفف وطأة ايامه الوجعة حالماً بوجبة دسمة وسرير دافيء . اخذت الاسئلة تدور في راسه:في حال جرت انتخابات نيابية هل يختار المال السياسي الحرام عند الادلاء بصوته لسد جوعه ام يفوز بالجنة بإختيار قائمة المستقلين الوطنيين ؟!.
حوارية صعبة اعتملت في داخله بين امعاء خاوية ثائرة ورغبة عارمة في الدخول الى جنة من اوسع ابوابها الثمانية.احس ان مساً اصابه فـ "الانتخابات و مناسفها بعيدة ". قرر مغادرة الموقع النحس،فعتبة المكان تقطع الرزق.رفع يديه للسماء مناجياً ربه : ربِ اسألك الصبر،فانا اصحو على وجع قاتل، و انام على جوع كافر.لقد فقدت القدرة على الاحتمال ،اتوسل اليك احدى الحُسنيين : اما حياة كريمة او جلطة قاضية،لا يهم ان كانت قلبية ام دماغية،المهم الخلاص مما انا فيه من عذاب لا تحتمله الجبال. ما ان انتهى من الدعاء المضمخ بالدمع حتى احس بنسمة لطيفة تهب عليه خففت من معاناته.تخيل سيدنا محمد القدوة والمعلم صلوات الله عليه،وهو يربط حجراً على بطنه من الجوع. فقال مستغفراً : ربِ لا تتركني لمن لا يعرفون إلاً و لا ذمةً ،و لا يؤمنون بخلق ولا دين.هؤلاء هم اعداء المستضعفين في الارض . ربِ ألم تقل وقولك الحق المبين : " فليعبدوا رب هذا البيت الذي اطعمهم من جوعٍ و آمنهم من خوف".انها ثنائية الامن الغذائي و الامن من خوف.متلازمة الطعام و الامن لا فكاك بينهما.فعندما يتحقق الامن الاقتصادي والوظيفي،يتحقق آلياً الامن من خوف،وتنتفي عندها الحاجة لانتشار الدوريات في كل منعطفٍ و زاوية، و لا نصاب بصدمة قتل ـ بني آدم ـ من اجل بضع جرار غاز. ما ان همَّ بالمغادرة حتى اقترب منه رجل يبدو على ملامحه الطيبة و البؤس.مدَّ يده ووضع في كفه شيئاً احس بلسعته،فالفقراء يعرفون لغة بعضهم...
اسقط ذلك الفقير العابر نصف جوعه امانة بيده ومضى. لم يغضب منه، فالجوع يقبل القسمة على اثنين،عندها يكون حمله اخف.انطلق الى حيث لا يعلم،فامثاله لا يحملون بوصلة ، ولا يعبئون بالجهات لانهم لا يؤمنون بالجهوية التي يسخرها السياسيون النافذون لمصالحهم،ويستغلونها لتمرير اجنداتهم القذرة، كما انه لم يحمل في حياته ساعة خوفاً ان تلسعه عقاربها،فزمن الفقراء واحد وان اختلفت فصوله.اخيراً استقر قراره ان يصعد احد جبال المدينة الراقية،لان القيعان التي يسكنها لا ينبت فيها عشب،و لا يطلع من بين صخورها نبع ماء.كل ما فيها سيول قذرة، تهبط ـ من فوق ـ حاملة على ظهرها اوساخ الطبقة المترفة و اتربة الشوارع الخلفية المثقلة بالموبقات.
ظل يصعد الى ان تقطعّت انفاسه،وكاد ان يهم بالعودة، لولا ان راى المفاجأة تقف في نهاية الشارع بكامل ابهتها، تظللها شجرة،تكاد تضيء لجمالها. خطفت لُبَهُ من النظرة الاولى، ثم إستدرجته بسحرها في لعبة اغواء لم يتصورها يوما في مخيلته.نسي تعبه و غذ الخُطى ليحضنها مهما كانت العاقبة.اشتم رائحة عطرية تفوح زاد من جذابيتها. لمسها بحنان وعلى الفور سال لعابه وانتعشت روحه.مط جسده لكشف مكنوناتها.راى قطاً داخلها ينهش بقايا دجاجة.نهره بقوة قائلاً : انا احق بها منك لانني على وشك الموت،لم يرفع راسه حتى امتلأت معدته. رفع يديه للسماء حمداً لله.جال بنظره قبل ان يعود قافلاً من حيث اتى صوب المجمع السكني الراقي الذي يرمي اصحابه بقايا طعامهم في تلك الحاوية ثم حدث نفسه : من قال ان الاثرياء لا يشعرون بالفقراء ؟!.ها هي النعمة التي يلقونها في الزبالة تُنقذ روحاً معذبة،الشكر لهم على كرمهم.آهِ لو صادفت احدهم لقبّلت يده...الله،الله،الله. حتى ان النعمة تظهر في حاوياتهم ...حاوية سبع نجوم. في طريق العودة اطلق سراح خياله، ماذا لو ولدت هنا ؟!.
ماذا لو كنت ولداً لاحدى هذه العائلات المحظية . حقاً انها ارض طيبة تغري بالاقامة فيها.تُرى هل هي بحاجة الى تأشيرة اقامة ام اننا سواسية مثلهم. مواطنون من درجة واحدة ؟!.
دب فيه نعاس خفيف من دسامة الوجبة.فكر في ان ياُخذ غفوة تحت شجرة،لكنه اقلع عن الفكرة بسبب برودة الجو،.السماء ملبدة بالغيوم تُنذر بامطار غزيرة.اثناء حواره الداخلي،ارتخت شفته السفلى.شعر بعدم القدرة على ضبط توازنه في المشي.جلس على الرصيف ثم غاب عن الوعي.عامل وافد شاهده عن بُعد اثناء غسله سيارة مترف المجمع الراقي.استدعى الدفاع المدني،لم يلبث النشامى الا قليلاّ حتى اتوا مسرعين كعادتهم.قاموا باسعافات اولية لانعاشه من غيبوبته،لكن محاولاتهم لم تنجح. نقلوه الى المستشفى على عجل، ورافقهم الوافد للادلاء بشهادته انه رآه وهو يأكل من الحاوية ـ مصيدة الفقراء ـ. بالفحص السريري تبين ان الحاوية تُرش يومياً بمبيد حشري معطرٍ،لكنه شديد السُمية مخصصاً لاغواء القوارض الضارة و قتل الكلاب الضالة .
قام الاطباء بعملية غسيل معدة للفقير لتحريره من تلك الوجبة المُميتة،ثم حقنوه بالامصال الضرورية للتخفيف من اثار السموم التي تسري في بدنه. للاسف فان جهودهم المضنية فشلت في انقاذ حياته.اسلم الروح وعلى وجهه إبتسامة عريضة تشي بالرضا.فالفقراء لا يندمون على مغادرة الحياة،لذلك يموتون بسعادة غامرة، لانهم لا يتركون وراءهم سوى جوعهم،ولعناتهم الابدية على من ظلمهم من ـ اولاد الحرام و الحرامية ـ الذين يعتبرون الفقراء مجرد كمبارس في طرف الصورة و مخلب قط لتحريكهم عند الضرورة.