الكبيرة هم الذين يُقدِّرون العهود
الحياة بدون الوفاء ستشبه الغابة التي لا أمانَ فيها ولا اطمئنان بها , الكل يخشى خيانةَ الآخرين , ويتوجس خيفةً حتى من أقرب الأقربين , إذ إن الوفاء هو الذي يبعث في النفوس الطمأنينة ، ويُذهب عنها الوحشة والخوف والقلق.
تخيَّل معي مجتمعًا بلا وفاء ..
كيف يأمن الناس على حياتهم وأموالهم وهو يتوجس خيفةً ويتوقع الغدر في أية لحظة ؟!.
تخيَّل معي صداقةً بلا وفاء .. كيف سيُفضي الشخص بأسراره وهمومه وهو بطبيعته يحتاج إلى الفضفضة إلى أحد مقربيه ؟! كيف سيُهوِّن على نفسه وهو يخشى منه كشف الستر وانفضاح الأمر ؟!.
تخيَّل معي حياةً زوجيةً بلا وفاء .. كيف ستطمئن الزوجة إلى زوجها وهي قلقة مضطربة , تخشى غدره وتتوقع خيانته ؟! وكيف سيطمئن زوجٌ إلى زوجته وهو يخشى نُكرانها للجميل وهجرانها للعشير ؟!.
تخيَّل معي حياةً أسريةً بلا وفاء , يخشى فيها الآباء جفاء أبنائهم وقسوتهم وقلة عطاياهم في وقتٍ هم أشد ما يكونون فيه إلى الاحتياج عندما يكبر سنهم ويضعف جسمهم !!.
وغيرها وغيرها من المعاملات الإنسانية التي تنقلب بها الحياة إلى معركة شرسة , يأكل فيها القويُّ الضعيفَ ، ويُجهز فيها القادر على المحتاج.
لماذا الوفاء ؟
لأن الوفاء يعني الاعترافَ بجميل الآخر وحُسن صنيعه ، وهو من شيم أصحاب النفوس الكبيرة التي تحفظ الجميل وتبادر إلى مقابلته بالإحسان.
ولأن الوفاء يعني عند الكبار الديمومةَ حتى بعد الممات ، وهو ما لا يقدر عليه إلا أصحاب النفوس الكبيرة الذين وطَّنوا أنفسهم على أداء الحقوق التي أخذوها على عاتقهم وألزموا بها أنفسهم حتى ولو كانت هذه الحقوق لمن رحلوا عن دنيانا.
ولأن الوفاء يعني للكبار الوفاءَ بالعهد والميثاق ولو تحاملوا على أنفسهم ، أو كلَّفهم ذلك فوق طاقتهم.
ولأن الكبار فقط هم الذين لا يعتبرون الكلمات التي تخرج من أفواههم ، والوعود التي يقطعونها على أنفسهم كلماتٍ طائرةً غير مسئولة ، بل يسعون للوفاء بها , لأنها في نظرهم مسئوليةٌ سُيحاسَبون عليها أمام الله. الكبار أصحاب النفوس الكبيرة هم الذين يُقدِّرون العهود ، ويُلزمون أنفسهم بالوفاء بها، وهي دلالة من دلالات رُقي الإيمان وتمكُّنه من القلب.
فالكبار هم أخوف الناس من التقصير عند سؤال الله لهم إن هم لم يوفوا بالعهود التي يقطعونها على أنفسهم .