"انتقام مواطن"
خمس سنوات من تخرجه الجامعي و ما وجد للآن ذلك المنفذ الذي يوصله الى الحياة العملية، خمس سنوات و هو يطرق ابوابا من المذله و الرجاء لجميع من صادفه من أصحاب المناصب أو حتى من أقربائهم لعل و عسى يضحك له الحظ أخيرا بحصوله على تلك الوظيفة الشبه مستحيلة و التي أصبحت في زمننا هذا هو حلم صعب الوصول اليه بسهولة، أتم دراسته الهندسية على دموع و حسرات و ديون قد تراكمت على والده على أمل تسديد تلك الديون من مدخول ذلك المهندس الناجح و الذي ستتزاحم عليه الشركات و المكاتب الهندسية من كل جال ،ذلك المهندس الذي سيفني عمره في خدمة وطنه و انشائه لأجمل المباني و الاستثمارات التي سترتقي باقتصاد ذلك البلد، لكن للأسف فقد خذله زمانه، فما تبقى لهذا الأب غير التنهدات و حرقة القلب على هذا الشاب و الذي يوما بعد يوم يتملك اليأس شعوره و يبدأ الاحباط و الخذلان المجتمعي بتآكل فكره و حماسه ، ويدخل الشك قلبه و ايمانه ، و أصابه ذلك الخجل الاجتماعي و الذي بدوره وضعه على ذلك الكرسي المهمش والذي خصص فقط لأمثاله من الشباب، شباب لا ظهر لهم ،شباب ما حملوا اسلحة غير شهاداتهم و فكرهم النير، لكن للأسف وُجدوا في مجتمع يسألهم عن هوية من ارسلهم الى دنيا الوظائف من السياسيين و رجال الأعمال؟
استيقظ باكرا في ذلك اليوم و بعد خمس سنوات من البحث المتكرر عن عمل يلائم دراسته للهندسة المعمارية، تبنى القرار بقبول أي وظيفة كانت حتى و ان لم تكن من ضمن اختصاصه المنهجي، ارتدى ملابس جميلة و خرج من منزله المتواضع بصوت دعاء أمه بالفرج و ارسال أولاد الحلال في طريقه ، مشى في الطرقات شارعا شارعا ملوحا بعينه يمينا و شمالا لعله يرى اعلانا عن وظيفة ما هنا ام هناك، دخل المكاتب و الشركات جميعها لكن للاسف لم يسعفه حظه ،فلطالما كان حظه قليل العطاء في هذه الدنيا، اصبحت الساعة السادسة مساءا ولم يجد أي فرصة للتحدث عن نفسه و عما يريد ،جلس على عتبة متجر ملابس ليأخذ نفساً عميقا بعد هذا المشوار الطويل الذي خلا من اي فائدة، كانت هنالك شركة اتصالات مقابل هذا المتجر، شرد فيها و بموظفيها الذين أنهوا وظيفتهم و استهموا للرجوع الى منازلهم و الاستلقاء بعد يوم شاق طويل قضوها وراء المكاتب ، واذ بمركبة فخمة من الطراز الحديث سوداء لونها منتظرة ابن الوزير ليعتلي تلك المركبة و يزيدها شرفا و قيمة.
واذ به ماشيا بنظرات متعالية بعيدة جدا عما يراه البشر العاديين من اشياء وجدت على الارض، حاملا حقيبة قد ملئت بملفات العمل وبأوراق و طلبات الواسطات و الترقيات لمن يخصه من الشباب اصدقاء كانوا أم اقرباء ,صعد الى تلك المركبة و مشى في طريقه البرجوازي و الذي ملأ بشتى انواع السلاسة المرورية و رفاهية الجلوس والذي دُمج مع الاجواء الدافئة الممزوجة مع الموسيقى الهادئة الخاصة بتلك الشعوب فقط,ذهبت المركبة و ذهب معه ذلك الأمل الضئيل المتبقي من حلم شاب تعثر في طريقه بالكثير من الخيبات و انكسار النفس و الخاطر و الحيرة و الضياع و الخوض في متاهات التمييز الطبقي والمجتمعي , حينها و في تلك اللحظة بالذات، قرر في نفسه بأن يتخلص من كل تلك المظاهر و الهموم التي ما عاد بإمكانه حملها على ظهره المكسور ، قرر بأن يتخلص من كل تلك الدموع الطاهرة والتي نثرتها أمه على هذا الوطن و أبنائه , قرر بأن يتخلص من آهات تملكت أبيه المسن والذي ما عاد بيده لا حول ولا قوة للسعي في راحة ولده و تيسير أمورهم وتحسين مستواهم المعيشي ولو بالقليل ، تقرر بالتخلص من صيحات الفقراء و العاطلين عن العمل و من كلمات استهزاء قد خرجت من أفواه ثرية ما عرفت للشقاء ولا لفقدان الطموح معنى, في تلك اللحظة بالذات قرر التخلص من نفسه,التخلص من شاب تيقّن بأنه لا يضر ولا ينفع في هذا المجتمع, دعا الله بأن يصبر أهله ويحميهم من اي أذى من الممكن بأن يتعرضوا له في يوم , وما كذّب خبراً, نوى و فعل، فلا رأيت في ذلك الشارع يومها غير كاميرات الصحافة السبّاقة الى الحدث و سيارات اسعاف قد أغلقت طريقا بكامله, وما سمعت حينها غير صراخ أم و تمزيق ثوب قد تيتّم من احتضان ابن بعد ثلاثين سنة مضت . و جسد أب منهار ما استطاع تحريك قدميه باتجاه الغطاء الابيض و الذي أخفى من تحته حماس وروحا يافعة لشاب سوف تُدثر تحت التراب , فما أستطاع لساني بأن ينطق غير جملة واحده فقط الا وهي 'رحمة الله عليه, ورحمة الله عليك يا وطني ' فما كانت الرواية الا عن انتقام مواطن من نفسه ومن عائلته و من مجتمعه ومن الوطن ايضا.