قيم إنسانية لا يحتكرها الرجل
كثيراً ما سمعت من رجال ونساء، من سياسيين وناشطات مبتدئات في الحركة النسويّة، من مؤيدين لحقوق المرأة، ومن مؤيّدات لحقوق الرجل والقوامة، من ناس عاديين وربات بيوت، من عمال وأساتذة جامعات، إشادة بنساء عبر القول إنهن "الرجال الوحيدون" في موقف أو محفل ما. ودائماً كان يدهشني ذلك، مع أنني كتبتُ في تحليل هذا المجاز اللغوي ورفضِه منذ العام 1996 في كتابي "اللغة الغائبة: نحو لغة غير جنسويّة" (1996، مركز دراسات المرأة، عمان). كما ما يزال يدهشني الأمر مثلما يدهشني أن المرأة المتعلّمة الفصيحة الناهضة بمسؤولياتها تجاه المجتمع تسمّي نفسها نائباً وأميناً عامّاً ووزيراً ورئيس قسم... إلخ، مع أنّ اللغة العربيّة تحتفي بالتأنيث احتفاءً لا لَبس فيه!
وقد سمعت هذا الوصف مؤخراً بحق النائبة هند الفايز بأنها "الرجل الوحيد في مجلس النواب"! والفايز تستحق كلّ احترام وكلّ تقدير، فهي والنائبة الدكتورة رلى الحروب، تشكّلان حالةً متميّزة على معظم النواب النساء والذكور في هذا المجلس، فلديها الجرأة والوعي لممارسة الفعل النيابيّ بما تستحقّ عليه الشكر والثناء، ولكن لا يكون الثناء بسلبها الكرامة لأنها أنثى، ثمّ إسباغها عليها لأنها تشبه الرجال! فالقول بأنّها، أو غيرها، الرجل الوحيد في المجلس يعني شتم النساء جميعاً مرتين؛ مرةً بإخراج النائبة المحترمة من جنس النساء لأنه لم يعد يليق بها الانتماء إليهن، لأنهنّ جنس خَرِعٌ خوّافٌ تابعٌ، ومرّة لنسبة الشّجاعة التي تبديها الفايز إلى جنس الرجال وأنها حكرٌ عليهم! وهي قيمٌ فهلويّة ذكوريّة تجعل من "الرجولة" قيمةً بشريّة عليا تجمعُ الشجاعة والشهامة والمروءة والنَّجدة والغوث والحزمَ (رجّال في بيته) والقيادة (وخصوصاً في الأسرة) والموقف المبدئيّ (موقف رجال) والصدق (كلام رجال) وغيرها من الصفات الإيجابيّة التي تراها العرب كذلك. ومع أنّ العرب نسبت الكمال إلى لفظة "رجل"، فوُصِفت عائشة بأنّها رَجُلَةُ الرأي، ولكنّ هذا التوسّع في استخدام الرجولة جامعةً لصفات الكمال ليس، فيما أحسب، موغلاً في القِدم، وأحسب أنّه انتشر بعد أن هتفت أم أبي عبدالله الصغير، آخر ملوك غرناطة: "ابكِ كالنساء مُلكاً لم تحافظ عليه كالرجال"! وأنه شاع في المئة السنة الأخيرة، بعد أن شهدت البلاد العربيّة حركة تحرير المرأة، حيث باتت مكانة الرجل في المجتمع على المحكّ، أمام فيضٍ من المفاهيم تدعو المرأة إلى العمل خارج البيت، وتتحدث عن العدالة والمساواة بين الجنسين، وتناقشُ القوامة... وغير ذلك، إلى أن تبلورت فكرةٌ مركزيّةٌ عالميّةٌ في التعامل مع السلطة وهي حقوق الإنسان وحقوق المرأة، والمواثيق الدوليّة التي تنادي بها.
وعلى ذلك، فإنّ النائبة المحترمة هند الفايز تصدرُ في شجاعتها عن قيمة إنسانيّة عليا ليست حِكراً على أحد بسبب الجنس أو البيولوجيا، وأنّ النساء الشهماتِ الحكيمات المُغيثات القائدات ذوات المروءة والمبادئ الحازمات الصادقات هنّ الجداتُ حافظات الإرث الماديّ والجماليّ والأخلاقيّ، زارعاتُ الحقول الصابرات، منقِّحاتُ سطور المعرفة بالإنسانيّة والرحمة، وهنّ الأمهاتُ الباسلات مربيّات الأجيال في المسغبةِ وضيق الحال، والمناضلاتُ الحاليّات لإحقاق الحقّ ونشر العدل وتمكين النساء ورفع الظلم عن وجودهنّ المؤنّث.
بوجود النساء الواعيات المبادرات دائماً هناك أمل...!