"ريادي".. جيل فوق العادة
في كل مناسبة تتاح فيها للشباب الأردنيين فرصة اختبار قدراتهم، تأتي النتيجة لتؤكد أنهم، ومن دون مبالغة، جيل فوق العادة؛ في القدرة على امتلاك المعرفة والريادة والابتكار والمنافسة والتفوق.
مجرد فرصة فقط، وسيمنحون بلدهم المكانة التي ينبغي أن يكون عليها. لا تنقصهم المبادرة، ولا الرغبة في تحقيق الذات والارتقاء بالمجتمع إلى مصاف المجتمعات الحية.
مبادرة "ريادي" الرائعة توحي بكل ذلك؛ مبنى في مجمع الملك الحسين للأعمال التابع للقوات المسلحة الأردنية، لا تزيد مساحته على 8000 آلاف متر مربع، قرر رئيس هيئة الأركان المشتركة، وبتوجيه من الملك عبدالله الثاني، تحويله إلى منصة وطنية لاحتضان الأعمال الريادية للشباب الأردنيين، ومساعدتهم على تأسيس شركات ناجحة في مختلف المجالات، تكون رافدا للاقتصاد، وتساهم في توظيف الطاقات الشبابية في أعمال تعود بالفائدة عليهم وعلى المجتمع.
لم يكن لأحد أن يتصور ما ستؤول إليه هذه التجربة غير المسبوقة. بعد نحو عامين على انطلاق المبادرة، يبدو المبنى اليوم كما لو أنه مساحة مستقطعة من بيئتنا الأردنية، أو جناح في واحد من أشهر مراكز الأعمال الريادية في العالم.
ما يزيد على 800 شاب وشابة أردنيين، اختارت كل مجموعة منهم مجالا للريادة والعمل الإبداعي. غالبيتهم الساحقة من خريجي الجامعات الأردنية، لم تكن الظروف والتشريعات لتسمح لهم بتأسيس شركات صغيرة ودخول عالم المنافسة والسوق. إدارة المجمع قدمت لهم كل التسهيلات الممكنة؛ خدمات الاتصالات والإنترنت، وبيئة العمل الفريدة، ومكاتب بإيجارات مخفضة في واحد من أغلى أحياء عمان.
بموازاة ذلك، ساهمت شركات الاتصالات؛ "زين" و"أمنية" و"أورنج"، في توفير خدمات إضافية مبتكرة؛ مكاتب مفتوحة لمن لا يملكون من الشبان القدرة بعد على تأسيس مشاريعهم الخاصة، للعمل على تطوير أفكارهم بمساعدة مباشرة من كوادر الشركات المذكورة، وتحويلها إلى مبادرات حية قابلة للتطور، والتعاقد معهم لشراء ما يناسب هذه الشركات من برمجيات وخدمات، في حال كانت متسقة مع طبيعة عملها.
قاعة "زينك" تعج بالعشرات من الشبان المجتهدين، يتحلقون بمجموعات صغيرة تعمل بتركيز شديد ومثابرة مثيرة للإعجاب للفوز بالتحدي، وولوج عصر المنافسة في عالم لا مكان فيه للكسالى.
في أرجاء المبنى الريادي تتوزع عشرات الشركات الصغيرة: شبان يصنعون أطرافا صناعية، ويجهدون لدخول المنافسة في عالم الطباعة ثلاثية الأبعاد. مبرمجون أردنيون يتمكنون من تصميم محرك للبحث الصوتي على غرار "غوغل"، يستفيد من خدماته عشرات الملايين من البشر حول العالم. منبر شبابي بريادة رسام الكاريكاتور المبدع عمر العبداللات، لرعاية الأعمال الفنية والإبداعية، وتعزيز مكانة الفن والثقافة في المجتمع. تصاميم مبدعة مستوحاة من أعمال فنانين عرب، تتحول بفضل مجموعة صغيرة من الشبان المبدعين إلى رسومات مطبوعة على الملابس. عشرات من الشبان يكدّون من أجل إنتاج محتوى عربي لألعاب الكمبيوتر يتناسب وثقافة المجتمعات العربية. خريجون جدد في تخصص تكنولوجيا المعلومات يطورون برمجيات ويصدرونها للأسواق الغربية.
ثلاثون شركة تعمل بدوام كامل في المبنى، وحوالي أربعين أخرى تطور قدراتها بمساعدة من منصات الإبداع التابعة لشركات الاتصالات.
الجهة التي صنعت هذا النموذج الفريد ليست دار خبرة عالمية أو تنتمي لعالم القطاع الخاص، بل هي مؤسسة الجيش العربي الأردني التي لا تضع يدها في مشروع إلا ويجد طريقه للنجاح.
بعد جولة في المبنى، يتساءل المرء: ما الذي يمنع الجهات الرسمية من التفكير بنسخ نموذج "ريادي" في جميع محافظات المملكة، لنمنح الآلاف من شبابنا فرصة إثبات الذات؛ لنغير وجه الأردن، ونغادر مأزق التنمية المستعصي على الحلول، وكابوس البطالة والفقر والتطرف؟
"ريادي" كما لو أنه "الأردن الصغير" الذي نطمح أن يكون الأردن الكبير كله على شاكلته؛ ميدانا لاستعراض قدرة الأردنيين على الإبداع والريادة.