نستحق أفضل من ذلك
في حلقة نقاشية نظمها مكتب "اليونسكو" في عمان، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، ظهر البون الشاسع بين مواقف الحكومة والصحفيين؛ بدءا بحق الوصول إلى المعلومات، مرورا بتنامي مناسيب الرقابة الذاتية، وانتهاء بالجدال حول ما إذا كان العام 2015 هو الأسوأ لجهة حرية الإعلام في بلدنا.
وزير الدولة لشؤون الإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة د. محمد المومني، أصر خلال النقاش الحيوي على "أن أي شخص منصف أو موضوعي لا يمكنه إلا أن يقر بوجود مستوى متميز من حرية التعبير والإعلام، وإن كان ليس بالمستوى الذي نطمح إليه". واستطرد المومني: "علينا كرسميين وصحفيين ونشطاء، العمل على تحسين الوضع بشكل مستمر". وأعرب عن قناعته بأن "عقلية الحكومة تجاوزت منع المعلومات، ونحن من يصر على عدم إخفائها عن الرأي العام. لكن يبقى أن ننظم الأمر بما يوازن بين حق الصحفي في الحصول على المعلومة، وما يمكن إعطاؤه للصحفي". لكنه خلص إلى القول إن الخوف وغياب ثقافة توفير المعلومات للرأي العام، يقعان في صلب مشاكل الحصول على معلومات في مملكة كان السبق لها عربيا في إقرار قانون يضمن هذا الحق العام 2007.
لكن الوزير الذي خاض تجربة كتابة مقال رأي، وترأس معهد الإعلام الأردني لسنوات، جوبه بعاصفة من الشهادات الحية والمخالفة لموقفه، من صحفيين محترفين شاركوا في الندوة، كشفت عن تنامي منهجية حجب المعلومات من جهات رسمية خارج إطار العلاقة المنفعية بين الصحفي والمسؤول.
وذلك بداية الخلل بعينه. لماذا؟
لأنه يعني قيام علاقة تعايش تكاملية بين طرفين غير متجانسين: صحفي يعتمد على مسؤول (وسيط) للحصول على معلومات أساسية، بينما يعتمد المسؤول (الوسيط) على الصحفي للوصول إلى الجمهور عبر رسائل يتحكم بمضمونها مسبقا. وذلك يعني البقاء ضمن دائرة التأثير المبرمج ضمن حلقات صناعة الإعلام وتمرير المعلومات. ولو خرج الصحفي عن حدود الدور المرسوم، سيعاقب بحرمانه من تدفق المعلومات.
وبين هذا وذاك يضيع حق المواطن في الاطلاع على الحقائق، ويهدر حق "السلطة الرابعة" في خدمة المجتمع ومساءلة المسؤولين عن أقوالهم وأفعالهم لمصلحة الشفافية والحاكمية الرشيدة في دولة القانون والمؤسسات.
الصحفيون رسموا في مداخلاتهم صورة مغايرة للموقف الرسمي. واكتملت الحلقة النقاشية بمساهمات من الحضور؛ منهم محامون وزملاء في المهنة. في خلفية المشهد احتفاء الحكومة بتقرير "مراسلون بلا حدود"، حول تقدم الأردن ثماني درجات على مؤشر الحريات الصحافية؛ 135 عالميا بدل المرتبة 143.
لكن الحكومة تناست ربما أن الدول التي سبقتنا تشمل موريتانيا، وجزر القمر، وتونس، ولبنان، والكويت، وقطر، والإمارات المتحدة، وسلطنة عمان، والجزائر، والمغرب، وفلسطين. أما التي أعقبت الأردن فهي العراق، ومصر، والبحرين، وليبيا، والسعودية، واليمن، والسودان، وسورية. كما تجاهلت ربما أن قانوني "منع الإرهاب" و"الجرائم الإلكترونية" باتا سيفا مسلطا لتكميم الأفواه، بعد أن تكفلا بتوسيع دائرة الممنوعات وتهديد الصحفيين بالحبس إن حاولوا الاقتراب من الخطوط الحمراء وكشف المسكوت عنه. وبذلك انكفأ معظم الصحفيين عن أداء دورهم لتفادي العقاب.
بالتزامن، أطلق مركز حماية وحرية الصحفيين تقريره السنوي بعنوان "خلف القضبان"، ليستنتج أن العام 2015 ربما يكون الأسوأ لجهة حرية الإعلام، منذ شرع المركز في إطلاق تقييمه السنوي العام 2006. إذ شهد العام الماضي توقيف 10 صحفيين.
أجواء عدم الرضا عن تراجع الإعلام كانت واضحة خلال هذه الندوة.
أحد المشاركين في ندوة الأحد اشتكى من أن الأردن "لم يغادر مربع عقلية إخفاء المعلومات متسلحة بقانون حماية أسرار ووثائق الدولة رقم 50 لسنة 1971 الذي يقونن حجب المعلومات". وقال: "تتباهى الحكومة بالمقارنة مع دول دكتاتورية وغير صديقة للإعلام بدلا من السعي إلى المقارنة مع الدول الاسكندنافية، وأميركا وبريطانيا، لأن الأردنيين يستحقون أفضل من ذلك". وتساءل أيضا: "لماذا لا ينضم الأردن إلى 52 دولة دسترت حق الحصول على المعلومات كحق أساسي من حقوق الإنسان؟".
الصحفي ذاته استذكر كيف قدّم 150 طلبا للحصول على المعلومات بموجب قانون 2007 لإنجاز تحقيقات استقصائية، لكن من دون نتيجة. إذ لم تتم الإجابة عن معظم الطلبات فيما أهملت أخرى، مع أنها قدّمت وفق النموذج الرسمي المعتمد.
مستشهدة بتقديرات دائرة الإحصاءات العامة، أوضحت النائب خلود الخطاطبة -رئيس لجنة التوجية الوطني والإعلام النيابية، والقادمة من "بلاط صاحبة الجلالة" الصحافة- أن طلبات الصحفيين للوصول إلى معلومات شكلّت 3 % فقط من مجمل الطلبات منذ صدور القانون. ذلك يعكس، في أحد جوانبه، عدم قناعة الصحفي بجدوى القانون، لاسيما أنه لا يتضمن فرض عقوبات على المسؤول الذي يرفض توفير المعلومة من دون سبب مشروع. واستذكرت النائب كيف كانت تقنص معلومات حين عملت في الصحافة بالاتكاء على علاقاتها الشخصية مع المسؤولين ومصادر المعلومات.
محامية ضمن الحضور رأت أن "مقتل قانون حق الحصول على المعلومات يكمن في نصوصه وقائمة الممنوعات التي لا تنتهي".
وسط هذه الأجوأ، هل يستسلم الصحفيون دون تطوير القانون؟ بالتأكيد لا. لكن قلّة ستناضل بكل الطرق القانونية لتعديل القانون.
الكرة اليوم في ملعب الحكومة ومجلس النواب المقبل. إذ عليهما تطوير القانون لكي يحققا الأسباب الموجبة لإقراره بما فيها حرية الوصول إلى المعلومات؛ ركن الحريات الصحفية والحق الأساسي ضمن حقوق الإنسان.
الحكومة قادرة على سحب مشروع تعديل قانون حق الحصول على المعلومات لسنة 2012، والذي يرقد في أدراج مجلس النواب لأنه لم يكن إحدى أولويات المجلس الحالي. ومطلوب من نقابة الصحفيين أيضا المساهمة في وضع مشروع القانون على أجندة مجلس النواب المقبل.
بإمكان الحكومة وقوى الشد العكسي المماطلة والتسويف. لكن الأردن لن يستطيع السباحة عكس التيار الدولي الجارف. فالتاريخ يسير في مصلحة تفعيل قوانين ضمان حق الوصول إلى المعلومات على مستوى العالم بحلول العام 2030. فهي أحد أهداف التنمية المستدامة التي أقرّها زعماء الدول في قمة نيويورك؛ الهدف 16 (من 17 هدفا مرتبطة بـ169 مؤشرا)، والذي ينص على التزام الدول الأعضاء بـ"ضمان حق الوصول إلى المعلومات وحماية الحريات الأساسية تماشيا مع القوانين المحلية والمعاهدات الدولية". ويؤشر ذلك إلى ارتباط التنمية المستدامة بحق الوصول إلى المعلومات، بما يمكّن أذرع الأمم المتحدة من متابعة هذه الملفات وقياس مدى التزام الحكومات بتنفيذ الأهداف.
في أيلول (سبتمبر) المقبل، سيتم وضع ميكانزمات أممية ملزمة توفر ضمانات قانونية للاتزام بحق الناس في الوصول إلى المعلومات ومراقبة التزام الحكومات بإحداث استدارة دستورية وقانونية لتحقيق هذه الأهداف. وسيكون هناك دور محوري للمنظمات الأممية للتنمية، التي تصدر تقارير سنوية عن كل دولة ومنطقة جغرافية.
لن يفلت أحد من دائرة المراقبة في زمن ثورة الإنترنت. فهناك معياران لتقييم التزام الدول بتلك الأهداف: مدى دسترة حق الحصول على المعلومة، وحال الصحفيين في كل دولة؛ بمعنى كم منهم قتل أو اختفى أو خضع لمحاكمة غير عادلة بسبب عمله أو تعرض لاعتقال قسري.
في الأثناء، تتعاظم دعوات منظمات حقوقية عالمية وشخصيات وازنة معنية بحماية حرية الرأي والتعبير لتعيين ممثل خاص لدى الأمين العام للأمم المتحدة من أجل الاضطلاع بمسؤولية سلامة الصحفيين بناء على مبادرة أطلقتها منظمة "مراسلون بلا حدود".
ويبقى الأمل في أن يتوقف مسؤولونا عن التباهي بمقارنة حال الإعلام هنا مع دول مجاورة؛ فاشلة وأخرى تحولت إلى سجون مفتوحة للصحفيين أو تسمح للأمن بمداهمة مقر نقابة الصحفيين بحجج واهية. فالأردن والأردنيون يستحقون التطلع لنماذج أفضل.