داعش يضرب طهران
عبر عدد غير قليل من الناشطين الإيرانيين على مواقع التواصل الاجتماعي عن سخطهم ومرارتهم مما سمّوه «غياب أي تضامن شعبي دولي مع مصابهم»، بعدما تعرضت العاصمة طهران أخيراً لاعتداءين تبناهما تنظيم الدولة الإسلامية - داعش، في سابقة خطرة لا شك ستحمل تبعات كثيرة. وكتب الناشطون على صفحاتهم أنهم توقعوا من شعوب البلدان التي تعرضت لاعتداءات إرهابية أن تتضامن مع المدنيين الإيرانيين «الذين يقفون دائماً إلى جانب ضحايا الإرهاب أياً كانت جنسياتهم ومهما كانت سياسات حكوماتهم أو مواقفها». وتقول إحدى التغريدات: «لكل من تساءل في السابق لماذا لم يصل الإرهاب إلى طهران، ها هو يضربنا الآن. فهل يسعدكم ذلك؟».
وعبر كثيرون بالفعل عن سعادتهم وشماتتهم بالاعتداءين اللذين وقع أحدهما في مقر البرلمان والثاني في محيط ضريح الإمام الخميني، غير مكترثين بحقيقة أن من قتلوا ليسوا مسؤولين حكوميين أو قادة عسكريين أو صناع قرار بأي شكل من الأشكال، بل مجرد مدنيين توافق سوء حظهم مع تلك اللحظة القاتلة. وصحيح أن تلك المواقف كانت رسمية بغالبيتها، إلا إن المساحات الإعلامية التقليدية أو الافتراضية لم تشهد مواقف مقابلة يمكن الاعتداد بها لجهة التمييز بين المواطنين الإيرانيين وحكومتهم. غني عن القول إن لا صفحات إلكترونية وأوسمة أو صوراً أنشئت للمناسبة أو تم تداولها على نطاق واسع كما جرت العادة، وآخرها اعتداءات لندن.
ولا شك إن سلوك إيران العدائي وسياساتها التدخلية إن لم يكن الاقتحامية في المنطقة برمتها، أسباب كافية للنفور منها، لكن ليس من الطوباوية الزعم أيضاً أن التضامن مع مدنييها واجب على كل مدافع عن قيم الحرية والعدالة في هذه المنطقة قبل أي مكان آخر من العالم. ذاك أن خلط إيران الشعب بإيران السلطة ليس مجرد نفي لكل النضالات التي حاولت كسر القيد مراراً، وآخرها الثورة الخضراء، وإنما أيضاً تسليم كامل برواية السلطة وتثبيت لها بأن رأس الهرم كما قاعدته وما بينهما، كتلة متجانسة، متماسكة لا تتجزأ.
والحال أن «داعش» ضرب إيران للمرة الأولى بالأمس في الاعتداءين الأخيرين، لكنه سبق أن استهدفها عبر حلفائها سواء في العراق أو لبنان حيث طرحت أسئلة التضامن نفسها التي تطرح الآن، عندما بدأت السيارات المفخخة تستهدف أحياء سكنية ذات غالبية مؤيدة لـ «حزب الله» في الضاحية الجنوبية لبيروت. وكما في الأمس، يبدو أن السؤال الملح اليوم هو: هل جلبوها على أنفسهم؟
تذهب بعض التحليلات إلى القول إن القصة «مفتعلة» أولاً من حيث الشكل والسلاح المستخدم، وثانياً من حيث الرمزية الصارخة للمكانين المستهدفين، أي البرلمان والضريح. فكأنما ثمة من يريد أن يقول للخارج إن «الديموقراطية» الإيرانية مهددة، وهي التي تُقدم على أنها نموذج مختلف في محيطها. كذلك، هناك رسالة للداخل تعزز الخوف والشعور بالتطويق لأن الهوية (الدينية- الطائفية) للبلاد في خطر محدق. ومن شأن ذلك أن يرص الصفوف بطبيعة الحال، ويبدل الأولويات فيدفع بأي مطالب «إصلاحية» قد يرفعها تيار الرئيس حسن روحاني نحو مزيد من التأجيل والمماطلة، لمصلحة مواقف أكثر تشدداً وتشنجاً لخصومه من تيار المحافظين وأجنحة «الحرس الثوري» داخل السلطة.
وهي، إلى ذلك، محاولة لكسب ود واشنطن بعد تبني الرئيس دونالد ترامب سياسة العزل حيال إيران وتخليه عن نهج سلفه باراك أوباما في تعزيز الديبلوماسية والمفاوضات، وهو ما يتم عبر الإيحاء أن للبلدين عدواً مشتركاً هو «داعش»، لا بد من التعاون لمحاربته. أوليس هذا ما تبرر به إيران تدخلها العسكري المباشر أو عبر ميليشياتها في كل من العراق واليمن وسورية؟
واللافت على الساحة السورية، في هذا السياق، سابقة أخرى ذات دلالة كبيرة أيضاً تتمثل في قيام طائرة من دون طيار تابعة للنظام السوري بإطلاق النار على قوات التحالف الدولي قرب الحدود الأردنية، في عمل عدائي صريح قد لا تقف نتائجه عند إسقاط الطائرة. فلا نوايا الابتزاز مضمرة، ولا سلوك الحليف السوري موارب. الرسالة واضحة وتفيد أن هناك إمكانية كبيرة لتشتيت قوات التحالف عن حربها مع «داعش» وربما جرها إلى وحول كتلك التي غرقت فيها في العراق.
لا شيء يبدو مستحيلاً، لكن ثمة احتمالاً آخر راجحاً أيضاً وهو أن يكون الطلاق قد وقع عملياً بين الطرفين وانتهت مرحلة التلاقي الظرفي في المصالح على ما هي حال التنظيمات التي على شاكلة «داعش». فإن لم يحن وقت الانتقام ربما حان نقل المعركة ولو جزئياً إلى أرض جديدة. فاستهداف طهران ليس بالحدث العابر أو الاعتباطي مهما حاول روحاني التخفيف من شأنه ووصفه بـ «المفرقعات». ذاك أن توقيت الاعتداء واختيار مكانه تزامناً مع حاجة ملحة لدى التنظيم بتحقيق انتصار ميداني غير مكلف، يعزز موقعه بين جمهوره في وقت بدأ يخسر أبرز معقلين له، أي الموصل والرقة. وبهذا المعنى فقد حقق هدفه. أما الضحايا، الذين لم يتضامن معهم أحد، فهم ضحايا حكامهم قبل «داعش» أو سواها. إن لم يكن لشيء، فلأن إمكانية التضحية بهم ومقايضتهم في بازار السياسة الدولية، إحدى (أكثر) الروايات قابلية للتصديق. وفي ذلك وحده ما يستدعي التضامن.