قرار الجنائية الدولية .. سياسة ام قانون ؟
قرار المحكمة الجنائية الدولية بمساءلة الأردن أمام مجلس الأمن بزعم أنه لم يوقف الرئيس السوداني عمر البشير حين حضر قمّة البحر الميت ربيع 2017، يثير تساؤلات مشروعة حيال توقيته والدوافع وراءه: سياسية أم قانونية؟
ويربط خبراء قانون وسياسيون بين هذا الإجراء المفاجىء وبين موقف جلالة الملك المشرّف وتشبيكه بين أنقرة والرياض، رام الله والقاهرة في مواجهة قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.
ما تأثير قرار المحكمة الدولية على الأردن، وهل هناك من مخارج؟ أحاول في هذا المقال الإجابة عن أي تساؤلات بخصوص عضوية المملكة في هذه الهيئة الدولية ونطاق تأثير قوى دولية على مخرجاتها مثل أمريكا وإسرائيل.
بتاريخ 16/4/2002 صادقت المملكة الأردنية الهاشمية على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أو ما يعرف (بميثاق روما) بموجب القانون رقم 12 لسنة 2002 المنشور في عدد الجريدة الرسمية رقم (4748). وشكّل انضمام المملكة لهذا الميثاق لحظة مفصلية في تاريخ القضاء الجنائي الدولي، باعتبار أن المادة (126) من النظام الخاص بالمحكمة اشترطت مصادقة 60 دولة على الميثاق قبل دخوله حيز النفاذ. وكان الأردن الدولة الستين.
جاء انضمام الأردن لهذه الاتفاقية تماشياً مع رغبة المجتمع الدولي في انشاء جهاز قضائي دولي دائم ومستقل بعيداً عن هيمنة مجلس الأمن والدول العظمى، لمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية كجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والإبادة الجمعية وجريمة العدوان. وطنيا، رغب الأردن في خدمة مصالحنا العربية والوطنية إزاء الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني يومياً بحق الشعب الفلسطيني من جرائم إبادة جمعية وإخضاع السكان لظروف معيشية صعبة بهدف ترحيلهم من أراضيهم المحتلة بالقوة، فضلا عن جرائم الفصل العنصري، كما هو الحال بالنسبة لجدار الفصل العنصري التمزيقي في الضفة الغربية.
ورغم أن المحكمة الجنائية الدولية هي جهاز قضائي مستقل - بحسب نظامها الأساسي- فإن مسألة انضمام الدول إلى نظام المحكمة أثارت العديد من الإشكالات الدستورية والقانونية، بخاصة فيما يتصل بالحصانات الممنوحة لرؤساء الدول وكبار المسؤولين -مدنيين وعسكريين- بموجب القوانين الوطنية والدولية. وكذلك مدى تعارضها مع النظام الأساسي للمحكمة، الذي لا يجيز الاعتداد بهذه الحصانات، فيما رأت بعض الدول أن الإقدام على هذه الخطوة الدول يفتح مجالاً واسعاً للتدخل في سيادات هذه الدول. النظام الأساسي ينص على إنشا محكمة جنائية بموجب اتفاقية دولية، بحيث لا تتبع أي منظمة أو كيان، فيما تدار شؤونها وينتخب قضاتها داخل جمعية الدول الأطراف في الاتفاقية المنشئة لها.
سعت الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل إلى إجهاض مشروع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية قبل ولادته، وذلك خلال مرحلة صوغ مشروع النظام الأساسي للمحكمة أثناء انعقاد مؤتمر روما الدبلوماسي بين عامي 1996 – 1998. في تلك الحقبة، استطاع هذان البلدان إدخال العديد من التعديلات الجوهرية على مشروع النظام، بخاصة فيما يتصل باستقلالية المحكمة وارتباطها بمجلس الأمن، فمنح النظام مجلس الأمن صلاحية التدخّل في عمل المدعي العام بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وهكذا تقرّر إحالة أي نزاع إلى مدعي عام المحكمة الجنائية بغض النظر فيما إذا كانت الدولة المحالة للمدعي العام طرفاً في الاتفاقية أم لا (المادة 13/ب)؛ مثال ذلك قرار مجلس الأمن بإحالة النزاع في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية رغم أن السودان ليست طرفا في ميثاق روما. كذلك تمكنت الولايات المتحدة وإسرائيل – اللتان كانت ضمن الدول المؤسسّة- من تعطيل إجراءات التحقيق والمقاضاه بموجب أحكام المادة (16) من النظام إلى ما شاء الله. وتنص هذه المادة: 'لا يجوز البدء أو المضي في تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام الأساسي لمدة اثني عشر شهراً بناء على طلب مجلس الأمن للمحكمة..... ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها'.
وفوق ذلك تمكنت الولايات المتحدة الاميركية وإسرائيل من تأجيل ممارسة المحكمة لاختصاصها فيما يتصل بجريمة العدوان لحين الاتفاق على تعريف لهذه الجريمة، وذلك للحؤول دون إخضاع إسرائيل لاختصاص المحكمة.
لكن بعد انتهاء الدول المجتمعة وعددها (112) دولة - بما فيها إسرائيل والولايات المتحدة - من إعداد الصيغة النهائية لنظام المحكمة الجنائية عام 1998، قرّر البلدان في بداية عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إلغاء توقيعهما، والانسحاب من العضوية. وبذلك لم يعد هناك ما يحملهما على تنفيذ ما يترتب عليهما من التزامات تجاه المحكمة. بل أرغمت الولايات المتحدة العديد من أعضاء المحكمة الجنائية على توقيع اتفاقيات ثنائية بينها وبين الولايات المتحدة الاميركية، تستثني بموجبها أفراد قواتها المسلحة من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ومن اختصاص الولايات القضائية الوطنية.
أسوق هذه التفاصيل لبيان مدى هيمنة أمريكا وإسرائيل على قرارات هذه المحكمة واستقلاليتها. ومن هنا جاء قرار الغرفة الابتدائية بالمحكمة الجنائية الدولية بإحالة الأردن إلى مجلس الأمن وجمعية الدول الأطراف في المحكمة، بحجّة أن هذا البلد لم ينفذ التزاماته تجاه المحكمة بإعتباره دولة طرف، وذلك بعدم توقيف الرئيس السوداني في مارس/ آذار 2017.
واضح أن قرار المحكمة الجنائية ذو بعد سياسي بامتياز، جاء رداً على الموقف المشرّف والشجاع لجلالة الملك المعظم بالتصدّي لقرار الإدارة الأمريكية حيال القدس الشريف. ويبدو أن الهدف منه تشتيت جهود الأردن وإشغاله عن مواصلة مساعيه في التصدي للقرار الأمريكي، ولإظهار الأردن بمظهر المخالف للقرارات القضائية الدولية. يحدث هذا التشتيت بعد التأييد الدولي لموقف جلالة الملك وتصريحات مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي فيديريكا موغيريني عن محورية الأردن وحكمة مليكه.
استقبال الرئيس السوداني عمر البشير في الأردن لا يعد خرقاً لنظام المحكمة الجنائية الدولية، فالرئيس السوداني يتمتع بحصانة رؤساء الدول الممنوحة له بموجب أحكام القانون الدولي العام. كما أن أحكام المادة 98 من نظام روما الأساسي التي تحدد شروطاً معينة لتنفيذ قرار المحكمة، لا تنطبق على مسألة الرئيس البشير. إلى ذلك، يجب أن يتناقض قرار التوقيف أو التسليم للمحكمة - بحسب نظام روما- مع التزامات الأردن بموجب أحكام القانون الدولي، لجهة احترام حصانة رؤساء الدول.
آن الأوان الآن للتفكير في أهمية أو مدى حاجة الأردن لاستمرار عضويته بهذه المحكمة. وقبل ذلك أدعو الحكومة لتشكيل لجنة من خبراء القانون الدولي والقانوني الجنائي الدولي للرد على قرار الغرفة الابتدائية لدى المحكمة الجنائية الدولية وإعداد الدفوع والمذكرات القانونية، بما يؤكد سلامة الموقف القانوني للمملكة. ولا ضير في إعادة دراسة القوانين الأردنية ذات الصلة ومواءمتها مع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، قبل الانسحاب من هذه الإتفاقية إذا قرّر الأردن ذلك، لأن عدم وجود قانون خاص بالجرائم الدولية يفسّر بعجز النظام القضائي الأردني عن النهوض باختصاصه، الأمر الذي قد يوقعنا في مصيدة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مستقبلاً.
*الكاتب: اللواء المتقاعد د مهند حجازي عضو اللجنة الوطنية للقانون الدولي الإنساني و مدير القضاء العسكري الأسبق