الغربة في وطنك
الوطن هو الأم والأب والأخ وهو البيت الدافيء الحنون الذي على عتباته أريح رأسي المتعب من ضجيج العمل وأرق الحياة المرافق لي ليل نهار ، والوطن هو الخابية التي أقتات منها وعيالي كلما تحركت بنا غريزة الجوع ولو لقيمات تسد الرمق وتقوم الجسد لينهض باكرا كل صباح ليواصل الكد والتعب ناحتا في صخور الزمن الصعب الذي نعيش .
وهو حكاية العشق التي سمعناها ترانيم جميلة من شفاه ما عرفت يوما سوى قسم الولاء والانتماء لترابه الطهور ،ورحلت أرواح أصحابها وهي توصي : الوطن ... الوطن .
بالأمس القريب من أعمارنا المثقلة بالهموم والمآسي كان المرء منا يشعر بعزة الحياة وكرامة الوجود وراحة البال رغم بساطة العيش وصعوبة التواصل وندرة الاكتفاء ...... كانت العوائل تحسن التدبير وتتلاحم في اثبات الوجود فعلا لاقولا وتتنافس في رسم الفرح على وجه الزمان .
حينها كان المرء يشعر أنه يستند على جبل شامخ ويأوي لعش حان ويشتم نسيم البحر من بعيد في تلك الخوالي لم يتسلل الخوف لقلوبنا قط ولم ينازع نومنا كوابيس ولم تتأفف الليالي وتضجر من نياح العواجيز .
كنت تشعر وكأنك تملك كل شيء بين يديك ، مع قلة هذه الأشياء وبساطتها .
حتى ساعة الصفر اليومي كانت تتهادى على أنغام عبارات الصباح المفعمة بالهمة والنشاط وتحملك لحقلك أو بستانك أو وظيفتك بروح العطاء اللامتناهي من شوقك لارضاء ذلك الجبل الشامخ ... الوطن ......
كنت تشعر بأنك ابن هذا التراب المنصهر بين حباته تاريخك ومذهبك وفكرك وروحك .....
أبدا لم نخشى فقرا حينها .....
قطعا لم نعرف للجوع طعما .... ولا للحاجة طريق .
كل الأبواب كانت مشرعة .......
أبواب الأخذ وأبواب العطاء ....
أبواب الحب وأبواب السلام ....
كل ذلك كان يقودك بأن لا غربة في الحياة ولا هجران ..... آنذاك كنت مرتاح الضمير وسيد الموقف أمام عجاف السنين .....
أما اليوم فلقد تبدل الحال وتغير الموقف ، وأصبح ذلك الطفل المدلل يشعر بالخوف .... غلبه القهر .... قهر اللامفهوم واللا معقول .... قهر ترحيل الأزمات وقهر التخبط وقساوة القلوب وتشتت الأفكار ..... قهر شح المعطيات ووفرة الطلاسم .... قهر ضيق المنفس وعتمة النهار ..... قهر الشيب في مقتبل العمر .... قهر الكلمة حين يعجز اللسان عن الحديث ..... قهر سنابل القمح عندما لا تؤتي أكلها في الحصاد ..... قهر المساجد حينما تخلو من المصلين .
حينها تشعر وكأنك مغترب في وطنك .... تنسيك اسمك وعنوانك .... تسير في طريقك وحيدا نحو المجهول ..... وكأنك طاؤوس في عش عاج تبحث عن سراب .
وأشد ما يؤرقك عندها أنك ستجد طوابير خلفك تبحث عن سرداب يوصلها نحو السراب .... عل السراب هذا ينهي تعب الضمير وقهر العجز وغربة الوطن .
ولكن ذلك لم يكن سوى نزعة الأنا في زمن الموت ووسوسة ابليس في محراب العابدين وأحلام العدو في قلب المعركة وسوء الظن بعباد الله المخلصين ..... نعم انه وطني .... أبي وأمي .... ترابي وطهوري .... عنواني وكرامتي .... معركة الوجود واللاوجود .... لا لن أخذلك ياوطني .... لن أسمح للدمع أن يسيل من عينيك ..... لن أنسى دفىء السنين وعزة الجبين .... مهما حاولوا لن أهجرك .....
مهما ضيقوا لن أتركك ......
أنت هوائي .... مائي .... زادي
ما أجملك ..... عذرا عتبا كنت أمازحك .